| |||||
يرجع بعض المؤرخين الوجود العربي في ساحل افريقيا الشرقي الى القرن الميلادي الأ ول. ويبدو أن العُمانيين قد وطدوا علاقاتهم بتلك المنطقة حتى لقد أصبحت ملاذا يلجأون اليه عندما تضيق الأحوال الاقتصادية في عُمان أو يضطرون الى ترك البلاد الى هناك في بعض الأحيان. ففي زمن الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان أرسل واليه على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي عدة حملات على عُمان كان آخرها عام 75هـ/6694م بقيادة القاسم بن شعوة المزني الذي تمكن من اخضاع البلاد لسيطرة الأمويين واضطر حينها حاكما عُمان. سليمان وسعيد ابنا عباد بن عبد بن الجلندي الى اللجوء الى ترك بلادهما واللجوء الى الساحل الافريقي الشرقي. ومنذ تلك الفترة تزايدت مكانة ساحل شرق افريقيا بالنسبة للعُمانيين فقد شهد مطلع القرن السادس الهجري (الثالث عشر الميلادي) ظهور أول دولة عربية هناك وذلك حين لجأ الى منطقة بته (Pate) الملك النبهاني سليمان بن سليمان بن مظفر على اثر خلافات داخل أسرة النباهنة وقد تزوج سليمان من ابنة حاكم كلوة الشيرازي كما استطاع بسط نفوذه الى مناطق واسعة هناك. وكذلك سيطرة قبيلة المزارين العُمانية على مناطق شاسعة مما يعرف اليوم بساحل كينيا. غير أن الامارات العربية في ساحل افريقيا الشرقي بقيت امارات اقليمية ومعزولة سياسيا عن عُمان الى أن تمكن العُمانيون في أيام الامام اليعربي "قيد الأرض" من اقتحام قلعة يسوع في ممباسا التي كان يسيطر عليها البرتغاليون وذلك في ديسمبر من عام 1698 وذلك بعد حصار دام 33 شهرا وهكذا أصبح النفوذ العُماني في تلك المنطقة نفوذا عسكريا سياسيا بالاضافة الى كونه تجاريا ثقافيا. لقد تزايدت الأهمية الاقتصادية لشرق افريقيا بالنسبة لعُمان ولذلك قام السيد سعيد بن سلطان بنقل مركز الامبراطورية العُمانية الى زنجبار وذاك أوائل الثلاثينات من القرن التاسع عشر. وبالرغم من أن الامبراطورية العُمانية بشقيها العربي والافريقي كانت امبراطورية تجارية الى حد كبير، إلا أن الاهتمامات الثقافية لم تكن غائبة عنها فبالأضافة الى الاهتمام بنشر الاسلام واللغة العربية ساعد الوجود العُماني هناك الرحالة الاوروبيين على اكتشاف مجاهل افريقيا والذين أثنوا على السيد سعيد بن سلطان على مساعدته وتشجيعه لهم كما أثنوا على الزعيم العُماني حميد الدين المرجبي المعروف بـ Tipotip الذي كان يقيم في الكونغو في أعماق افريقيا. يبدو أن مدينة كلوة على ساحل ما يعرف اليوم بتنزانيا كانت المركز الثقافي للسواحل الشرقية وقد تميزت هذه المدينة لقرون عديدة بعلو مبانيها وجمال مساجدها التي كانت مزينة بالفسيفساء والرخام الملون. حيث إن بعض الرحالة الأوروبيين قارنوا جامع علوة بجامع قرطبة في الأندلس سواء من ناحية جمال معماره أو الدور الحضاري الذي يؤديه كمركز لنشر علوم اللغة العربية والدين الاسلامي. لكن يبدو أن مكانة كلوة قد بدأت تخف تدريجيا فحلت محلها زنجبار وممباسا ومن خلالهما كان يتم التواصل الثقافي بين عُمان وبقية مناطق الساحل الافريقي الشرقي فمع نهاية القرن التاسع عشر الميلادي ظهر في عُمان - مثل غيرها من كثير من البلاد العربية - ما أطلق عليه بعض الباحثين الأوروبيين اسم النهضة العُمانية. وكان أبو تلك النهضة ابي نبهان الشيخ جاعد بن خميس الخروصي حيث امتدت اثرها الى شرق افريقيا وتبناها هناك السلطان برغش بن سعيد بن سلطان ( 1870 - 1888) الذي أسس مطبعة في زنجبار قامت بطبع ونشر عدد كبير من الكتب العُمانية وتلك المتعلقة بالفكر الاباضي. لقد صاحب الاهتمام بنشر الكتب والثقافة العُمانية ظهور عدد من العلماء العُمانيين في مجالات شتى من أمثال العالم الفلكي... المنذري والعالم الأديب أبو مسلم ناصر بن سالم الرواحي الذي أصدر في زنجبار مجلة أسماها النجاح وكان يكتب أيضا في جريدة الاهرام القاهرية. كما كان على اتصال وثيق مع عدد من العلماء في مصر وشمالي افريقيا حيث أدرك من خلال اتصالاته بهؤلاء العلماء أهمية نشر العلوم والثقافة العربية سواء في عُمان أو في شرق افريقيا. ففي رسالة الى الامام سالم بن راشد الخروصي حيث دعا أبو مسلم الامام الى تأسيس مطبعة بعُمان وعلى فتح ما أسماه المدارس العلمية وحث أهل الخير على التبرع لذلك قائلا "فإن معرك عُمان لم يسقط هذه السقطة العظيمة إلا من جهة الجهل والجهل أم المصائب في الدين والدنيا" وقد أقترح ابو مسلم على الامام سالم أن يكون التعليم اجباريا قائلا "بودي لو سايرني العلماء هناك على الرأي الذي أراه، وهو جواز جبر الأولاد على التعلم. وهي لعمري مصلحة عظيمة في الأمة. ثم تجعل نفقة الفقراء منهم على بيت المال ونفقة الأغنياء على آبائهم. وهي طريقة سياسية دينية تدل على أصول من الكتاب والسنة. وبقاؤكم على تعليم الجهلة على اختيار الآباء لأبنائهم مضمر جدا بالأمة لا يتقدم بها شبرا عن مركزها في الجمود ولو تركت الأمم الراقية على جمودها في الظلمة والجهل ولم يرعها وازع قسري من جهة الحكومات لما بلغت مبلغها من التقدم في العصرية". الملف الآتي يطرح عددا من القضايا التي تشغل بال المثقفين العُمانيين الذين عاشوا في مهجرهم في الساحل الشرقي لأفريقيا ورغم ان التجارة كانت الدافع الأول لهجرة العُمانيين وشغلهم الشاغل هناك الا أنهم بالتأكيد لم يكونوا منبتين عما كان يدور في وطنهم الأم عُمان. بل كانوا متفاعلين مع ما يدور في العالم من حولهم وكانوا يحاولون باستمرار تقديم النصح لساستهم وعلمائهم للانفتاح على الآخرين. مقدمة في المنهج: يمتد مدى تحليل الخطاب في تعامله مع النصى اللغوي الى ما هو أبعد من معاني الكلمات والجمل ومقاصد كاتبيها والسياق القريب الذي كتبت فيه ليشمل أساسا رؤية اللغة كممارسته اجتماعية فعلية ترتبط أساسا بمستويات اجتماعية أعلى كالسلطة والتغير الاجتماعي وصراع القوى داخل المجتمع الواحد. النص اللغوي يغدو هنا مفتاحا لقراءة الواقع الاجتماعي، وهذا هو ما سنحاول القيام به في هذه الدواسة. أي رؤية اللغة بحس نقدي يظهر ما تعكسه من عمليات اجتماعية كالتغير الاجتماعي والصراع وغيرهما. قبل أن انتقل الى متن الدراسة ينبغي أن أتوقف عند أمر يفرضه على التراث النظري الذي تسير عليه هذه الدراسة وهو التحليل النقدي الاجتماعي للغة. هذا الأمر يتمثل في وجوب توضيح موقفي كباحث من منهج البحث. ان المنهج النقدي يتجاوز الوصف البسيط للبنى اللغوية كالنحو والصرف وغيرهما ويتعمق الى رؤية الفعل الاجتماعي للغة. أي اللغة بوصفها عاملا فاعلا في الحياة الاجتماعية. ويمضي هذا المنهج ليحاول ابراز القوى التي تعمل خلف اللغة. وأشكال التفاعل والصراع بين هذه القوى، إن تحليلي لكتاب «بذل المجهود في مخالفة النصاري واليهود» للامام نور الدين عبدالله بن حميد السالمي من منظور التحليل النقدي للخطاب. أي التحليل الذي يتعامل مع مؤسسات وقوى اجتماعية وبمفاهيم وتصورات لا تخلو من الحساسية الاجتماعية. لا يخل أبدا بموضوعية التحليل والطرح. يقول كل من نورمان فيركلان وروث ودكاد (1997) في دراسة حديثة. لا يرى التحليل النقدي للخطاب نفسه علما اجتماعيا محايدا وموضوعيا بل انه مشارك ومسؤول. انه شكل من أشكال التدخل في الممارسة الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية... والتحليل النقدي للخطاب ليس استثناء للموضوعية العلمية المعتادة في العلم الاجتماعي: فالعلم الاجتماعي مرتبط على نحو جذري بالسياسات وأشكال صياغة السياسة. كما أثبته على نحو مقنع فوكو (1971- 1979) على سبيل المثال.... غير أن هذا بكل تأكيد لا يوحي بأن التحليل النقدي للخطاب أقل علمية من أنواع البحث الأخرى، فمقاييس التحليل الدقيق والصارم والمنظم تنطبق على التحليل النقدي للخطاب بنفس المستوى من القوة كما هو معهود في الرؤى (العلمية) الأخرى. (ص 258- 259، ترجمتي: الحراصي). معنى هذا أن الحقيقة العلمية والموضوعية المطلقة التي تعلن فروع العلم السعي اليها عادة ليست هدف التحليل النقدي للخطاب هذا التحليل سوف أحاوله في هذه الدراسة. ان هذه الدراسة التحليلية لخطابين ظهرا في عُمان في مطلع القرن تسعي بهذا المعنى الى "التدخل" معرفيا في الممارسة الاجتماعية في المجتمع العُماني. الذي شهد حركة تطور كبيرة في مناحيه الحياتية. بدراسة تسهم في توضيح الجوانب الاجتماعية للغة ورؤية الأدوار التي تساهم فيها في ميدان التفاعل الاجتماعي، سعيا وراء هدف أعم يتمثل في تعزيز الحس النقدي تجاه اللغة. كتاب «بذل المجهود في مخالفة النصارى واليهود» الكتاب الذي تتكون منه مادة هذه الدراسة هو "بذل المجهود في مخالفة النصاري واليهود" للامـام (1) نورالدين عبدالله بن حميد السالمي. ظهرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب. وهي التي عتمدناها في هذه الدراسة في عام 1995، وقد نشرته مكتبة الامام نورالدين السالمي، ويقع الكتاب في 80 صفحة من القطع المتوسط. ويتكون من مقدمة وسته فصول وخاتمة (2). الفصل الأول حمل عنوان "في التحذير من مدارس النصاري". والثاني "في لباس النصاري"، والثالث "في تعليم اللغة الأجنبية"، والرابع "في حلق اللحى"، والخامس "في السبب الذي أدخل النصاري بلاد الاسلام"، أما الفصل السادس فحمل عنوان "في الحث على التناصر والتآزر والاستعداد للعدو بما يستطاع من قوة والتنبيه على غوائله". أما خاتمة الكتاب فقد احتوت على تنبيهات حول التحذير من مطبوعات النصاري ونحوها، وفي الطريق لتهذيب الأطفال. قبل أن نلج مباشرة في تحليل الكتاب نرى أنه من المهم أن نتعرض بالتحليل لقصة تدوين هذا الكتاب كما يرويها الامام السالمي حيث انها تحمل كثيرا من الدلالات التي تعين على اضاءة بعض النقاط الرئيسية في هذه الدراسة. يقول الامام السالمي في مقدمة الكتاب. "هذا جواب لكتاب وصلني من زنجبار. مجادلا فيه عن اخوان الكفر، عبدة الدرهم والدينار، وذلك حين نزع الله حكومة زنجبار من أيدي المسلمين بما كسبت أيديهم. وسلط عليهم عدوهم. بما تركوه من أوامر ربهم. فاحتلها النصاري بالمكر والخدائع ونصبوا لهم أنواع الحيل السالبة للدين. رغبة في سلب دينهم. كما سلبوا دنياهم فيكونون سواء، فمال اليهم من لا خلاق له من جهال المسلمين. ومن زاغ عقله عن سنن الدين. فتزينوا بملابسهم. وعوجوا ألسنتهم بلغاتهم. وخالطوهم في مدارسهم وعاونوهم في محاكمهم التي هي بيت الظلم ومستقر البوار، فصدرت مني اليهم إشارة بالنصيحة عن هذا الاعوجاج. ومطالبة الرجوع الى أقوم المنهاج. فصدر منهم هذا الهذيان. الذي يزعمون انه من الاحتجاج. فلم أر بدا من جوابهم. خوف الوعيد المذكور في قوله (ص): "إذا ظهرت البدع في أمتي فعلى العالم أن يظهر علمه. فإن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل منه صرف ولا عدل..") (ص6). تشير هذه المقدمة بوضوح الى السبب الذي من أجله كتب هذا الكتاب. وان نظرنا الى تسلسل الأحداث المؤدية الى هذا التأليف لوجدناها تتكون من البنية التتابعية التالية: - الحياة في زنجبار (قبل وصول الكفار) حياة اسلامية. - وصول الكفار. وفرضهم لنمط حياة مغاير للنمط الاسلامي الموجود. - محاولة تكيف سكان زنجبار المسلمين مع هذا النمط الجديد المفروض من قبل سلطة أعلى. - نصيحة اعتراضية من قبل الامام السالمي الى سكان زنجبار تدعوهم الى رفض نمط الحياة الجديد والعودة الى النمط الاسلامي المألوف. - احتجاج من قبل بعض سكان زنجبار على نصيحة الامام السالمي. تسلسل الأحداث هذا يكشف لنا الكثير عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في تلك الفترة. غير أن تركيزنا هنا سينصب على ما يمكن تسميته بصدام خطابين داخل الثقافة العُمانية والظروف التي أدت الى هذا الصدام. فالقضية الأساسية التي تشغل "بذل المجهود" ليست مجرد استفتاء ورفض فتوى وانما هو حالة تاريخية مر بها المجتمع العُماني تأثر فيها بالمتغيرات التاريخية المتمثلة في التأثير الاستعماري الأوروبي والنمط الحياتي الذي نشأ في المجتمعات التي وجد فيها، هذا التأثر جاء على شكل محاولة لما أسميه بالتكيف الثقافي والحضاري مع النمط الجديد، حيث كما يقول الامام السالمي "مال اليهم من لا خلاق له من جهال المسلمين ومن زاغ عقله عن سنن الدين. فتزينوا بملابسهم. وعوجوا ألستنهم بلغاتهم. وخالطوهم في مدارسهم. وعاونوهم في محاكمهم". ان نظرنا الى الأمر من ناحية خطابية لرأينا بوضوح خطابين في حالة صدام: خطاب الالتزام الديني والثبات الحياتي الذي يمثله الامام نور الدين الدين السالمي والمؤلفون الذين يقتبس منهم في كتابه. وخطاب التكيف الذي يمثله محتجان من زنجبار. واشارة الامام السالمي الى "هذا الهذيان الذي يزعمون انه من الاحتجاج" تدل دلالة كبيرة ليس فقط على حدوث هذا الصدام فحسب وانما على تغير في بنية المجتمع بطرحه خطابات حياتية جديدة تحاول خلخلة سيادة الخطاب الديني وسيطرته المعهودة. فالرسالة القادمة من زنجبار ليست رسالة وصفية لنمط الحياة الجديد ومحاولة تبرير التعايش معا فقط. وانما كانت كما لاحظ الامام السالمي نفسه، مما "يزعمون انه من الاحتجاج" وهو ما نرى انه يفترض جرأة من قبل كتابه على الاحتجاج. وهي جرأة إن نظرنا اليها في سياقها التاريخي وفي شخصية المحتج عليه لرأينا أهميتها فقد كان الخطاب الديني هو المسيطر في عُمان. سيطرة لم يتجرأ على "الاحتجاج" عليها أحد طوال قرون عديدة. وكون الاحتجاج كان ضد الامام السالمي نفسه. فالقضية في غاية الأهمية والدلالة. ذلك ان الامام نور الدين السالمي كان يعتبر من أهم ممثلي مؤسسة العلماء الدينيين الذين كانوا في الواقع المسيطرين على النمط الحياتي المعيشي العُماني بأكمله. حيث امتدت سلطتهم الى تعيين الامام وخلعه اضافة الى وظائفهم التقليدية في الاشراف على المستويات الحياتية العادية للمجتمع من خلال القضاء والافتاء. اذن أن صدور هذا الاحتجاج ضد الامام السالمي نفسه يعني أن تغيرا ما قد حدث في المجتمع جعل من حدوث هذا الاحتجاج ممكنا وعلنيا. ومن الدلالات الأخرى التي تشير اليها هذه المقدمة القصيرة ارتباط مؤسسة العلماء في تلك الفترة بالواقع المعيشي للناس. نلمس ذلك من استجابة الامام السالمي للتغير الذي حدث في النمط المعيشي لعُمانيي زنجبار في أمرين هما استجابته الأولى التي تمثلة على شكل "اشارة بالنصيحة"، واستجابته الثانية التي تتجلى في كتاب "بذل المجهود" نفسه. وهنا يتوجب ان نشير الى نقطة غاية في الأهمية. وهو حياتية الوضع الثقافي آنذاك. فالقضايا التي كانت تطرح لم تكن أمورا نظرية عقائدية فحسب. وانما ظواهر حياتية معاشة كالمدارس وتعلم اللغات والملابس وغيرها. وعلى الرغم من ان رد الامام السالمي كان يمثل الثبات الديني وقياس الواقع بمقياس النصوص الدينية الأصلية المتمثلة في النص القرآني والسنة النبوية إلا أن التفاعل مع الأمور الحياتية للمجتمع ومحاولة التأثير في الواقع هو أمر ينبغي الاشارة اليه هنا باعتباره دلالة على مستوى من مستويات الالتزام الاجتماعي. هذه الاشارة ذات أهمية لسبب آخر وهو أن المجتمع كان يتفاعل داخليا وان رؤية الذات وتحديد الهوية القومية والدينية كانت تتم من خلال ممارسات هذه الذات الاجتماعية. أي ما يقوم به المسلمون العُمانيون في زنجبار وليس من خلال خطاب تضادي مع الآخر، سواء أكان هذا الآخر مذهبيا أو دينيا أو قوميا. إن نظرنا الى الكتاب من منظور حضاري أعلى. سنجد أنه رد فعل على التقاء حضارتين: الحضارة الاسلامية المتمثلة في مسلمي زنجبار ونمط حياتهم العربي الاسلامي، والحضارة الغربية المتمثلة في الانجلين ونمط الحياة الذي أوجدوه في زنجبار. ان الكتاب اذن محاولة للدفاع عن الهوية القومية (العُمانية) والدينية (الاسلامية) إزاء هجمة من هوية تختلف في قوميتها (الانجليز) ودينها (النصاري واليهود). الكتاب بهذا المستوى يمثل اذن لحظة مهمة من لحظات التاريخ العُماني، فهو يصور لحظة لقاء (أو، ان شئت. صدام) حضارتين. ودفاع الحضارة الاسلامية عن ذاتها، ويعبر عن صراع بقاء حضاري. إلا أن هذا المستوى الحضاري ليس ما يشغلنا هنا، حيث إننا سنركز على الداخل العُماني فقط وسنحاول تقديم رؤية لما نعتبره صدام خطابين داخل الثقافة العُمانية. الخطاب المسيطر وهو الخطاب الديني والخطاب الجديد وهو خطاب التكيف الاجتماعي، ما تبقى من هذه الدراسة سيخطو الخطوات التالية: سنقدم أولا الخطابين المتصادمين من خلال اطروحات كل منهما، والنسق التصوري الذي يجعل كل خطاب منهما مترابطا في ذاته ومتميزا عن الخطاب الآخر، ومن خلال الأليات الخطابية (اللغوية) التي يقدم عبرها كل منهما أطروحاته. بعد هذا العرض سنحاول تشكيل صورة لما نسميه بلحظة الصدام الخطابي، ويتمثل هذا في وصف ديناميكية الصدام وحوكيته من خلال تحليل للآليات التي عمد كل من الخطابين الى استخدامها. ثم ننتقل الى الاستنتاجات التي توصلت اليها هذه الدراسة. الخطاب الديني: إطروحاته ونسقه التصوري الخطاب الديني الذي يمطه الامام نورالدين السالمي هو خطاب يعتمد أساسا على قوة السلطة الدينية في عُمان آنذاك. هذه السلطة التي استمرت زمنا طويلا في عُمان اعتمدت على القوة الاجتماعية والسياسية النابهة من النصوص الاسلامية الأصلية وهي النص القرآني والنص النبوي اضافة الى التجارب الماضية في تطبيق الدين في الحياة الانسانية كفترة الخلفاء الراشدين أو الأئمة في عُمان مثلا. واذا كان اهتمامنا ينصب على الجانب الاجتماعي من اللغة فإننا نرى أن هذه النصوص قد كان لها دور أساسي في وضع السلطات الاجتماعية في عُمان. حيث كان دورها تبريريا لمكانة علماء الدين اضافة الى الدور الدفاعي - الهجومي الذي يتجل خير تجل في الحالات التي يتعرض فيها هذا الخطاب الى تحد أو "احتجاج" من خطابات أخرى. لا تنبع أساسا في طرحها من نفس المصادر الأصلية. وانما من ممارسات وتجارب حياتية مغايرة كما سنرى لاحقا. تعتمد بنية الخطاب الاسلامي اذن على الاطروحات الكبرى (3) التالية: - النصوص الأصلية تمثل حقيقة (الهية) ولذا فهي صحيحة في ذاتها. - صحة هذه النصوص تجلت أيضا في تطبيقها الذي استمر قرونا عديدة في عُمان (فترة الائمة). - أي محاولة لتعطيل هذه النصوص ودلالاتها وانعكاسها على الواقع الحياتي للناس هو بعد عن طريق الدين. - أي بعد عن الدين يجب ايقافه. إضافة الى هذه الاطروحات التي تسيطر على الخطاب الاسلامي عموما فإن نظرة على نسقه التصوري تضيء لنا جانبا مهما في هذا الخطاب. يقوم هذا الخطاب على مجموعة من الاستعارات التصورية. الأساسية وهي ما أسميها بالاستعارات الاستراتيجية (5) الاستعارات التصورية الاستراتيجية للخطاب الديني هي كما يلي: - الاسلام فضاء ذو حدود: هذه الاستعارة استراتيجية ليس في الخطاب الديني للامام السالمي فقط. وانما في الخطاب الديني الاسلامي على وجه العموم. وتقوم هذه الاستعارة على معرفتنا بالفضاءات المغلقة. كالغرفة. أو السيارة أو قاعة الدرس أو السينما، كما يوضح الشكل التالي الذي يمثل مخططا تصوريا للفضاء المغلق: فنجد أن الفضاءات المحدودة تحدد الداخل والخارج والحدود، فالشكل يوضح مستطيلا محدودا من جميع الجوانب. وثمة نقطتان نقطة تقع "داخله" والنقطة الأخرى "خارجه". لقد أوضحت النظرية التجريبية للاستعارة ان خبرتنا بالأشياء المادية البسيطة في حياتنا ومعرفتنا بها تعيننا على تشكيل المفاهيم المجردة. ولهذا فإن معرفتنا بكون جسمنا مثلا داخل غرفة معينة أو خارجها (كما يوضح الشكل بالنسبة لوضع النقطتين) تنقل حسب مقتضيات الخطاب الديني لتشكل تصور الدين. فكما أنك قد تكون داخل الغرفة أو خارجها، كذلك فإنك اما أن تكون داخل الدين أو انك تخرج منه. ان هذه الاستعارة استراتيجية في الخطاب الديني فبنيتها تمكن ممثلي الخطاب الديني من تحديد الذات بصفتهم داخل فضاء الدين. وتحديد الآخر الذي يرى اما أنه يمارس حياته داخل اطار الدين أو انه قد جاء بفعل "يخرجه" من الدين. ان نظرنا الى خطاب الثبات الذي يطرحه الامام السالمي فسنجد تجليات هذه الرؤية التي تتحكم في تعامله مع التفاعل والصراع الاجتماعي. لنتأمل مثلا العبارتين التاليتين: * دواهي عظمي ومصائب كبرى، يعلم ذلك جميع العقلا،. ولا يخفى الا على الجهلة الأغبياء فمن فوائدهم أنهم يخرجون هؤلاء الصبيان الذين يتعلمون في مدارسهم من دين الاسلام اخراجا حقيقيا بقلوبهم. (النبهاني: ص 10). * وأما لبس ما كان شعارا للكفر من يهودية أو نصرانية أو مجوسية كالزنار ونحوه فهو شرك اجماعا، وخروج عن الملة الاسلامية. (ص 30). - الاسلام طريق (أو صراط) مستقيم والاسلام تحرك من موضع لآخر: وهنا فإن خبرتنا بالطرق والاتجاهات تنقل لتشكيل رؤية معينة ايديولوجية للدين. فتنقلنا من موضع لآخر، يفترض أن ثمة نقطة بداية وان ثمة طريقا ينبغي عبوره. وان ثمة هدفا نصل اليه. كما يشير المخطط التالي: أن النقط (أ) تمثل نقط البداية. و(ب) الطريق و(ج) الهدف الذي يسعى الشخص المتحرك للوصول اليه. بنية التحرك هذه عادة ما ترتبط ببنية الخط المستقيم. فالخط المستقيم يفترض أن جميع النقاط الموجودة على الخط تتوازى في المستوى ان قيست بمقياس مساحي كما يشير المخطط التالي: ان ربط الخط المستقيم بالتنقل الى هدف معين يعني ان الطريق للوصول الى الهدف يغدو طريقا مستقيما (السهم الأسود الداكن). يشير المخطط أيضا الى الطرق المنحرفة عن الطريق المستقيم (الاسهم المنقطة). ان هذا يعني انك اذا أردت الوصول الى الهدف فإن عليك أن تستخدم الطريق المستقيم (طريق الهداية أو الهدى)، أما اذا زغت عن الطريق وانحرفت فإنك لن تصل الى الهدف المنشود، بل انك ستصل الى أهداف غير محبذة كالكفر والجحيم (طريق الضلال). ان معرفتنا بهذه الأمور البسيطة كالتنقل والطرق المستقيمة والانحراف عن الطرق تعيننا لتشكيل تصورات عن مفاهيم مجردة كالدين. فالدين هنا طريق يقود الانسان الى هدف السعادة الأبدية. وهو طريق مستقيم اذا ما انحرف عنه الانسان لن يصل الى النهاية المرجوة. على المستوى الاجتماعي فإن هذه الاستعارة (الاسلام طريق مستقيم يوصل الى الجنة) ترتبط أساسا بالوضع الاجتماعي للسلطة الدينية في المجتمع العُماني. فهذه الاستعارة التصويرية توفر الامكانية لتحديد الصحيح والخاطيء دينيا، وتحديد الذات والآخر الاجتماعي. ولذا فإنها عادة ما يستخدمها الخطاب الديني في محاولة تحديده للأطراف الأخرى، فهي توفر ذخيرة يمكن بها تحديد الآخر "المنحرف" الذي "يضلل" الناس. أي يبعدهم عن الطريق الصحيح. ان لغة الامام السالمي في كتابه تظهر بجلاء تحكم هذه الرؤية التصورية للدين ودوره في الحياة في خطابه: * فصدرت مني اليهم اشارة بالنصيحة عن هذا الاعوجاج ومطالبة الرجوع الى أقوم المنهاج. (ص 6). * فآمنتم ببعض الكتاب وكفرتم ببعض. واستبدلتم بالرشد غيا، وبالهدى ضلالا (29). * وقوله تعالى: "ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل". (ص 31). هذه فيما نرى. وحسب مقتضيات هذه الدراسة هي الاستعارات الاستراتيجية التي تتحكم في الخطاب الديني للامام نور الدين السالمي. ان هذه الاستعارات تتماشى كما رأينا مع الطروحات الاساسية للخطاب الديني وهو ما يجعله خطابا واضح المعالم منسجما تصوريا وخطابيا مع طروحاته الكبرى وتفاصيل تلك الاطروحات كما هو موجود في الرؤية التي يطرحها الامام السالمي في "بذل المجهود". هذا الانسجام والترابط الداخلي للخطاب يعتمد أساسا على النسق التصوري الذي يقوم على تصورات "جغرافية" تحدد موقع الاطراف المشاركة في الصراع أو التفاعل الاجتماعي. خطاب التكيف: أطروحاته ونسقه التصوري يطرح المحتجان الزنجباريان رؤية مخالفة لرؤية الامام السالمي. هذه الرؤية. رغم اقرارها بأهمية النصوص الأصلية في تحديد نمط الحياة. إلا أنها تبرز عوامل حياتية تؤثر تأثيرا مباشرا في حياتهم. هذه العوامل هي عوامل حياتية تعتمد على التجربة والمعايشة وعلى الظرف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي كانت تعيشه زنجبار أنئذ من خلال الاطروحات التالية: - في زنجبار متغيرات حياتية اجتماعية واقتصادية وسياسية انتجت وضعا معيشيا مختلفا. - الالتزام بالنصوص المقدسة كما يقدمه الخطاب الديني أمر غير ممكن بسبب المتغيرات. - البقاء اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا يفترض مجاراة هذه المتغيرات. بسبب عدم ضرر هذه المتغيرات ضررا كبيرا من جانب وبسبب عدم وجود وسيلة أخرى غير هذه المجاراة والتكيف مع المتغيرات. - في هذا الوضع لا سبيل الا التكيف والتغير. كما سنرى لاحقا أن خطاب التكيف يتميز بأمر غاية في الأهمية هو أنه لا يعتمد فقط على فكرة التكيف الذي لا مفر منه. رغم انها الاطروحة الرئيسية فيه. فهو يطرح أيضا رؤية أخرى مغايرة تماما للخطاب الديني، رؤية تعتمد على المشاهدة وتتمركز أساسا على اظهار الجوانب الايجابية للتغير. معنى هذا ان خطاب التكيف هو، فيما نرى، جزء بسيط من عملية تغير اجتماعي كبرى للخطاب فيها دوران أساسيان: دور العاكس لهذا التغير ودور المشارك فيه. إن النصوص الاحتجاجية التي يوردها الامام السالمي في الكتاب تكشف بوضوح عن هذا التغير الذي كانت تعيشه زنجبار، لكنه في الوقت ذاته كان يعد جزءا مهما في عملية التغير ذاتها، فالتغير هنا قد أنتج خطابا (تنظيريا اجتماعيا) ومعرفة خاصة به. تؤسس لما سيستجد من مراحل عملية التغير هذه. واذا نظرنا الى النسق التصوري لخطاب التكيف فإننا نلاحظ أمرا في غاية الأهمية وهو عدم وجود نسق تصوري متكامل مثلما هو عند الخطاب الديني الذي أسس نسقه التصوري على مدى أجيال وجراء وجود وفاعلية النصوص المقدسة التي كان لها دور أساسي في تشكيل النسق التصوري وليس للخطاب الديني فقط وانما للفرد العادي في المجتمع. ان مراد بعض مظاهر الاضطراب الداخلي لخطاب التكيف هو ما جادلنا فيه سابقا من أن خطاب التكيف مرحلة انتقالية فقط في عملية تغير اجتماعي كبرى. في خطاب التكيف نجد أن الاستعارة الاستراتيجية الأساسية هي التكيف. وقبل أن أوضح كيف عملت هذه الاستعارة في المستوى الاجتماعي لمصلحة ممثلي هذا الخطاب ومنتجيه. سأوضح أولا بنيتها التصورية. ان هذه الاستعارة تقوم أساسا على وضعنا الجسمي في تفاعله مع البيئة حوله. فالوضع الأساسي الذي نعيش فيه هو الوضع العادي الذي تمارس فيه أجسامنا وظائفها دون الحاجة الى القيام بأفعال أخرى غير معتادة. ولكن نجد أحيانا أنفسنا في أوضاع تتطلب منا تغييرا في وضعية جسمنا لمناسبة وضع خارجي. لنأخذ مثلا الأوضاع الطقسية غير الطبيعية مثل البرودة الشديدة. ان البرودة الشديدة تفرض علينا التعامل معها بحيث نمنع ضررها على جسمنا، ولذا نبادر الى التكيف معها من خلال الملابس الثقيلة التي تمنع تعرض الجسم لدرجة البرودة غير الطبيعية. مثال أخر: تخيل أنك تحاول الدخول في أحد أنفاق قلعة الحزم: إن النفق. وهو الظرف الخارجي، يفرض عليك الحركة جسميا بوضع معين. ذلك انه لا يمكنك الحركة في النفق قياما كما هي العادة. لذا فإنك تشكل وضع جسمك كاملا (وضع الرأس. وضع القدمين...الخ) بحيث يتلاءم مع الظرف الخارجي المتمثل في بنية النفق (التي تشمل شكله وحدوده المساحية على وجه المثال). فيما يلي سنحاول تقديم مخطط مبسط لتصور التلاءم والتكيف. يظهر المخطط (1) شكلا معينا هو المربع (مجازيا هو الفرد في زنجبار) الموجود في ظرف يناسبه (2)، أي وضع المربعات (النسق الاجتماعي التقليدي القائم على مركزية الخطاب الديني)، ثم (3) يحدث تغير في الظرف الخارجي يتمثل في تحول مجموعة المربعات الى مثلثات (المتغيرات التي حدثت في زنجبار بعد مقدم الاستعمار وما صاحبه من تغيرات). هنا فإن الشكل، لكي يكون منسجما مع الوضع الجديد، لا يجد أمامه من سبيل إلا التحول الى مثلث (4). هذا التحول (محاولة التأقلم مع الظروف الاجتماعية الجديدة من خلال أفعال اجتماعية غير معهودة في الوضع السابق) تجعل منه في وضع منسجم مع الظرف الخارجي الجديد (أي أن الفرد يصبح منسجما مع المتغيرات الاجتماعية). نشير هنا الى أن هذا المخطط يبسط عملية التكيف الاجتماعي التي تتكون من بنية معقدة ومن عمليات تفاعلية اجتماعية ونفسية واقتصادية وسياسية عميقة. لكنه مع ذلك يظهر المراحل الأساسية لتصور التكيف الاجتماعي. ان هذه البنية البسيطة للتكيف تشكل الجزء التصوري الجوهري في خطاب التلاؤم والتكيف الزنجباري. حيث انها تمكن المتحدث من محاولة فهم الظواهر غير المادية والتعامل العقلاني والتفاعل معها وتبرير الفعل الاجتماعي على المستوى الأعم. ان هذا المخطط التصوري ذو أبعاد تكمن في لب عملية التغير الاجتماعي وصراع القوى داخل المجتمع العُماني، فبنية التكيف تفترض أن التغير الأساسي لا ينبع من تغير في ذات الفرد نفسه وانما في الظرف الخارجي الذي يستلزم تغيرا في الذات والممارسة الاجتماعية التي قد لا تتفق ومتطلبات الخطاب الديني الذي يصر على الثبات. أضيف الى ذلك نقطة مهمة أخرى، وهي أن القيام بإعمال هذه الاستعارة وليس غيرها أمر مهم في دلالته الخطابية. فهو نوع من التحدي التصوري للخطاب الديني. ذلك ان الخطاب الزنجباري هنا لا يوظف نفس الاستعارات المسيطرة على الخطاب الديني (مثل الاسلام فضاء مغلق. والاسلام رحلة في خط مستقيم) بل انه يتجاوزها ليشكل نسقا التصوري الخاص به. ان هذا التحدي لا تتعكر أهميته في تقديم تصور جديد فقط. بل إن أهميته الكبرى تكمن في كونه فعلا اجتماعيا في ذاته. انه فعل فهم جديد للعالم ولتفاعل الانسان العُماني والمسلم عموما مع متغيرات الواقع. فهو يمثل رفضا للتصورات الاستراتيجية المشكلة للخطاب الديني وتقديما لتصور جديد يعكس الأبعاد الاجتماعية الجديدة والصراعات والتفاعلات داخل المجتمع العُماني ويكرس عملية التغير. آليات الصدام يعكس الكتاب كما أشرنا لحظة صدام بين خطابين وجدا في المجتمع العُماني الحديث. ولكن قد يسأل البعض "لماذا هو صدام ؟ أليس الأمر أكثر من خلاف في الآراء بين عالم دين وشخص عادي؟ بين شخص لا يعرف في أمور الدين وعالم دين يحاول أن يشرح الأمر كما يرده الشرع؟". ان هذه الدراسة لا تنفي مستوى العلم بالدين الذي يميز الامام نور الدين السالمي وهو ليس محل أدنى شك وليس مجال الحديث عنه هنا، لكن للامع (الأمر الاجتماعي تحديدا) زوايا مختلفة ليس العلم بالدين الا أحدها. الزاوية التي أطرحها في هذه الدراسة زاوية مختلفة وتنطلق من منطلقات نظرية مختلفة. فالدراسة هذه تنطلق من رؤية ترى في اللغة فعلا، أو ممارسة فعلية لها أهدافها وآثارها. وهي رؤية تتجاوز ما ساد من ان اللغة ليست الا وسيلة اتصال محايدة بين بني البشر. مثال بسيط على الفعل اللغوي. حينما يقول الزوج (المسلم) لزوجته "أنت طالق" فإنه لا يخبرها فقط. أي أنه لا يوصل معلومة منه اليها، بن إنه أساسا يمارس فعلا اجتماعيا هو الطلاق. وهو فعل له دلالاته وعواقبه الاجتماعية. نفس هذه النظرة (أي اللغة كفعل لم تسري على كل ممارسة لغوية. أضف الى ذلك انني انطلق من بعض ما توصلت اليه الدراسات النقدية المعاصرة والتي لها تراث فلسفي خاص بها يتمثل بعضه في دراسات ميشيل فوكو حول الخطاب ودوره في التفاعل الاجتماعي، ودراسات التحليل النقدي للغة كما هو عند روجر فاولر ونورمان فيركلان وغيرهما ممن طوروا النظريات الاجتماعية النقدية في ميدان اللسانيات (7). هذه الدراسات مجتمعة أوضحت ان اللغة تعكس الواقع الاجتماعي وصراع القوى المختلفة فيه من جانب. وتشارك في هذا الواقع من جانب آخر. وهذا بتلخيص. هو المنطلق النظري الذي تنطلق منه هذه الدراسة. فالدراسة اذن محاولة في التحليل النقدي للغة في سياق عُماني. بهذا الاطار النظري في الذهن. فإن قراءتي لكتاب "بذل المجهود في مخالفة النصاري واليهود" للامام نور الدين السالمي قد أقنعتني بإمكانية دراسته من هذه الزاوية. فالكتاب. كما سأوضح لاحقا، موظف في سياق اجتماعي ويؤدي بهذا وظيفة اجتماعية. ان فهم الصدام الخطابي الذي يعكسه الكتاب فهما أعمق يتطلب مني تتبع الآليات التي عمد كل من الخطابين الى توظيفها في مستوى النص. ان كلمة الصدام التي استخدمها هنا تفترض انني استخدم استعارة (المناظرة الفكرية معركة) في فهمي لتفاعل طرف الكتاب. وأنا هنا على وعى تام بذلك وأرى أن استخدام تصور المعركة ليس عفويا وانما استخدمه لأسباب متعددة. فأولا أن تصور المعركة يمكنني كباحث من رؤية جوانب مهمة في الكتاب لا يمكنني رؤيتها فيما لو استخدمت مجالا تصوريا مختلفا كأن أقول أن المناظرة هنا (تبادل) لوجهات النظر. فكل من الخطابين هنا يعكسان روحا تنزع نحو التشكيك في شرعية وجود الآخر، فالخطاب الديني يرى أن لا شرعية دينية تسند خطاب التكيف ذلك أنه منبت تماما من السند الشرعي، فيما يرى خطاب التكيف ان الخطاب الديني منبت عن الواقع ومتغيراته التي لا يمكن ردها ولذا فإن وجوده بصورته تلك أمر غير عملي الا اذا تكيف هذا الخطاب الديني نفسه مع الواقع ومقتضياته. فنحن اذن إزاء خطابين لا يمكن وصفهما الا بأنهما متصادمان. وهنا فإن رؤية هذه المناظرة باعتبارها معركة تمكن من رؤية الاستراتيجيات والتكتيكات التي قام بها كل من الخطابين على مستوى النص لطرح أفكارهما الأساسية لنزع شرعية الخطاب الآخر، وبهذا فإن (المعركة) هي وسيلة كاشفة بحثيا. أضيف الى ذلك أني أرى الأ مر من منظور المعركة لسبب منهجي يحكم هذه الدراسة بأكملها وهو أني أدرس هذا الكتاب وصدام الخطابين فيه من منظور اجتماعي يمثل الصراع الاجتماعي على السلطة وتفاعل القوى الاجتماعية المختلفة فيه جزء محوري. وهنا أكرر اني لا أنظر الى اللغة باعتبارها نظام اشارات يستخدم لوظيفة تواصلية بل من منظور اجتماعي، فاللغة (مثل كتاب "بذل المجهود") تكشف الصراع الاجتماعي عن طريق ابراز أطرافه ومحاوره المختلفة من جانب. فيما تشارك من جانب آخر في عملية الصراع. ان هذا الكتاب بالنسبة لي كباحث هو وسيلة استخدمها لرؤية صراع أو صدام اجتماعي شهدته تلك الفترة. أما بالنسبة لمستخدميه فإنه كان وسيلة تعبيرية ذات وظيفة اجتماعية تكرس أو تزعزع الواقع الاجتماعي. وعلى هذا فإن الصراع والمعركة هما أمران منهجيان يفرضهما الاطار النظري الذي يحكم رؤيتي وقراءتي للكتاب من ناحية والمنهج الذي أتبعا في قراءتي وتحليلي له من ناحية أخرى. هذا الاطار النظري لم يفشل. حسبما أرى، حينما حاولت قراءة الكتاب من خلاله. فالكتاب يشير بوضوح الى الواقع الاجتماعي والصراع الذي شهده. فإن نظرنا فقط الى أطرافه لوجدنا ان الأمر يتجاوز الفردية في الطرح. ذلك ان الكتاب يقدم طرح الامام السالمي نفسه اضافة الى انه يشير الى ويقتبس من كتاب اسمه "ارشاد الحيارى في تحذير المسلمين من مدارس النصاري" للشيخ يوسف بن اسماعيل النبهاني. فنحن هنا ازاء صوتين عُمانيين يمثلان الخطاب الديني، أما خطاب التكيف فيمثله محتجان من زنجبار هما المحتج الرئيسي على نصيحة الامام نور الدين السالمي هو المشار اليه في الكتاب بـ"المعترض" (ص 7) أو "المعترض المجادل عن الذين يختانون أنفسهم" (ص 28)، اضافة الى معترض آخر يشير اليه الامام السالمي في الفصل المخصص حول حلق اللحى بقوله "غيره (أي غير المعترض الأول) ممن كان على شاكلته من أهل ناحيته" (ص 54). اذن نحن ازاء طرفين واضحي المعالم طرف يرى انه يقوم بوظيفة النصح. وطرف يحتج على ذلك. هذان الطرفان لا يشكلان الخطابين بأكملهما بالطبع وانما يعبران عنهما. فليس في وسعنا الآن معرفة كمية النصائح الموجهة الى أهالي زنجبار وأيضا الاحتجاجات القادمة من قبلهم، ولكن يمكننا بإطمئنان القول أن ثمة خطابين واضحي المعالم يحددان طرفي التفاعل والصراع الاجتماعي في تلك الفترة. فإذا اتفقنا ان رؤية الاختلاف في الرأي الذي يطرحه الكتاب من منظور المعركة أو الصدام بين طرفين وجدا في المجتمع العُماني في تلك المرحلة التاريخية فإني سأستخدم منهجا تحليليا ينبع من متطلبات المعركة ذاتها، وأهمها مفهوم الآليات (الاستراتيجية والأسلحة المستخدمة في الصراع). الآلية بهذا الفهم هي اذن أسلوب خطابي يمكن تقصيه من خلال اللغة ويستخدمه الكاتب من أجل تعزيز طروحاته الكبرى ورؤيته للكون والمجتمع والكيفية التي يتم بها تنظيمهما. الآليات الخطابية في طرح الخطاب الديني يستخدم الخطاب الديني آليات عدة في صدامه مع خطاب التكيف. سنختار منها ما نعتقد أنه أهمها وأكثرها اظهارا لأطروحاته ولمواجهة أطروحات خطاب التكيف. حيث سنتعرض لأربع آليات هي الاعتماد على قوة السلطة نفسها، وموضعة التغيرات الجديدة وتفسيرها ضمن الامكانيات التي يطرحها الخطاب الديني، واستخدام لغة صحة جسدية ونفسية وعقلية. والتشكيك في الواقعية والفرضية التي يطرحها خطاب التكيف. 1- التركيز على السلطة الدينية باعتبارها مرجعية للصواب والخطأ كما هو متوقع من أي خطاب في موقع الهيمنة على الخطابات الأخرى في المجتمع فإن الخطاب الديني يقدم نفسه في هذا الكتاب كسلطة اجتماعية. واذا تتبعنا دلائل ذلك في الكتاب فإننا سنجد مظاهر شتى لذلك. فالنصيحة التي قدمها الامام السالمي لأهل زنجبار بعد سماعه عن التغيرات الاجتماعية التي لم يعهدها هذا الخطاب في تنظيمه المثالي للمجتمع حسب مخططا، كتعلم اللغات الاجنبية ولبس الملابس الغربية. والدراسة في مدارس أجنبية أو في مدارس يعمل فيها الاجانب أو حتى في حلق اللحية. هذه النصيحة هي محاولة من قبل السلطة الدينية لاعادة الامور الى طبائعها قبل التغيير الاجتماعي. وقد يجادل البعض مرة أخرى هنا بأن ما كتبه الامام السالمي ليس أكثر من "نصيحة" كما يذكر هوفي قوله: "فصدرت مني إشارة بالنصيحة عن هذا الاعوجاج ومطالبة الرجوع الى اقوم المنهاج" (ص 6)، بمعنى انها مبادرة لا هدف من وراثها غير أني أود هنا أن أوضح أمرين: أولهما أن ما يشغلنا هنا ليس ما يقوله الخطاب الديني أو ما يعتقد انه يفعله. وانما التفسير الاجتماعي لذلك الفعل في سياق البنية الاجتماعية الموجودة والتغيرات التي كان يمر بها المجتمع. فالنصيحة جاءت من الطرف الأقوى اجتماعيا وهو طرف العالم الذي كان تأثيره كبيرا في المجتمع آنذاك وكانت موجهة الى طرف ليس ذي سلطة. فالطرفان ليسا في مستوى اجتماعي واحد (أي مستوى القوة الاجتماعية). فهذا اذن يحقق جانبا أساسيا من جوانب النظرة الاجتماعية التي نحاول تطبيقها في قراءتنا هنا، ثانيا، ان هذه النصيحة جاءت كرد فعل على فعل اجتماعي غير مرغوب من وجهة نظر الامام السالمي. فعل يضاد تفسير الخطاب الديني للنصوص الدينية الأساسية وهي النص القرآني والسنة النبوية اضافة الى سيرة السلف الصالح. وهو ما يعني أن الامام السالمي قد دون فصيحته تلك استجابة لفعل قام به الطرف الآخر. فالنصيحة هنا انما هي تجل لخطاب يحاول ايقاف هذا التغير، فنحن اذن ازاء فعل ورد فعل. الفعل الأصلي. التغير الاجتماعي كتعلم اللغة الاجنبية. قام به الكثير من العُمانيين في زنجبار تكيفا مع الأوضاع الجديدة. أما الاستجابة المانعة. أي "النصيحة عن الاعوجاج ومطالبة الرجوع الى أقوم المنهاج". فقد جاءت من قبل الامام السالمي. الأمر الآخر هو اني لا انظر الى الأمر، في هذا المستوى، باعتباره أمرا يتعلق باصدار أحكام تقييمية. كما قد يتوهم البعض خطأ، فإني عندما أقول أن الامام السالمي كان في موقع السلطة الاجتماعية وانه يمارس من خلال الخطاب الديني هذه السلطة. وعندما أقول أن عُمانيي زنجبار كانوا، في المستوى الديني على الأقل. كانوا "رعايا" لهذه السلطة. فإني لا أقصد أن أحدد طرفا حسنا وطرفا سيئا في العملية الاجتماعية. وانما أرى أن هذا المشهد من مشاهد التفاعل الثقافي في عُمان كان جزءا من عملية تغير حدثت في تلك الفترة كان لها أطرافها وأوضاعها كأي عملية اجتماعية أخرى، وتم تمثيلها في مستوى الخطاب اللغوي. وان كان أحد الأطراف في هذه العملية أحد أهم العلماء الذين شهدهم التاريخ العُماني، فإن الأمر لا يلغي التفسير الاجتماعي، البعيد عن الأحكام القيمية. لتلك الفترة وما شهدته من تفاعل. إذن فنحن إزاء عملية فعل ورد فعل اجتماعيين. واذا كان الامام السالمي قد دون فصيحته الى أهل زنجبار كرد فعل على ما رأى في تغيرهم من ضرر على دينهم. فإن النصيحة قد جاءت برد فعل من قبل بعض أفراد المجتمع العُماني في زنجبار. كانت على شكل احتجاج. وهو فعل أخر ذو أهمية في التفسير الاجتماعي للتاريخ. واللغة. فهذا الاحتجاج انما هو فعل هدفه تحدي نصيحة الامام السالمي، وهو ما أدى بالامام السالمي الى فعل أخر هو تدوين كتاب "بذل المجهود". وهذا الكتاب كفعل يدل على محاولة فرض رؤية محددة لكيفية تنظيم العالم (المجتمع) والتفاعل بين اطرافه كما يطرحها خطاب الثبات الديني. فالكتاب كله اذن هو فعل اجتماعي يقصد منه ليس كبح التغير الاجتماعي في زنجبار فقط وانما أيضا الرد على خطاب التكيف الذي تجلى في رسائل الاحتجاج القادمة من زنجبار. إن حديثنا السابق يعني أن تأليف الكتاب بأكمله يمثل تجليا لآلية استخدام السلطة الدينية لممثل الخطاب الديني (الامام السالمي). واذا كان هذا التجلي قد جاء على مستوى تأليف الكتاب بأكمله فإننا نجد الكثير من مظاهر استغلال آلية الفرض المباشر للسلطة في مواضع كثيرة في رد الامام السالمي (ومن يقتبس منهم) على رسالة المعترضين الزنجباريين. آلية اظهار السلطة الدينية وأهميتها الاجتماعية تتجل بوضوح في كتاب "ارشاد الحيارى في تعليم المسلمين في مدارس النصاري" للشيخ يوسف بن اسماعيل النبهاني الذي يقتبس منه الامام السالمي بعض آرائه حول عدم جواز تعليم أولاد المسلمين في هذه المدارس. فالنبهاني يحدث الاب الذي يأخذ ابنه الى مثل هذه المدارس قائلا: "فما بالك تفرط في دين ابنك هذا التفريط العظيم. بل تفرط في دين نفسك أيضا، وترتع انت وابنك في هذا المرتع الوخيم. فإن كان قد حسن لك الشيطان وأعوانه هذا الأمر القبيح. فها أنا وأمثالي نوضح لك قبحا ووباله غاية التوضيح. فلم تطيعهم وتعصينا؟ ونحن ندعوك الى الجنة. وهم يدعونك الى النار، ونحن نتسبب بنجاحك وهم يتسببون لك بالهلاك والدمار، مع معرفتك يقينا اننا أعرف منك فيما يصلح الدين ويفسده وما يقرب الانسان من الله وما يبعده فالله الله اتق الله في نفسك وولدك. ولا حول ولا قوة الا بالله العظيم (ص 20). تظهر الفقرة عرض السلطة الدينية هنا لقوتها ووعيها التام بالعملية الاجتماعية والتغير الذي تأتي به في موازين القوى الاجتماعية. يتجل هذا مثلا في استخدام الضمائر "أنا وأمثالي" و"هم... ونحن..." حيث يعرض الخطاب الديني ممثليه باعتبارهم السلطة التي تحدد كيفية عمل المجتمع. كذلك فإن هذه الفقرة تظهر بوضوح وعي الخطاب الديني بالمنافسة القائمة من الـ"هم" ولذا يبدأ في تفعيل بعض استعاراته الاستراتيجية في المقارنة بين السلطة - الذات والسلطة - الآخر، كاستعارة (الحياة تحرك الى الجنة) فيقول: "نحن ندعوك الى الجنة. وهم يدعونك الى النار". ان استخدام ضمير الجمع في الاشارة الى الذات والى الآخر يظهر ان الأمر يتجاوز النصائح الشخصية وان ثمة عمليات اجتماعية كبرى كالصراع الاجتماعي بين القوى والخطابات الاجتماعية هي التي تتحكم في تفاصيل حياة المجتمع. وقيما يقدمه الخطاب الديني من طروحات تعرض باعتبارها معرفة مطلقة غير مرتبطة بسياق اجتماعي تاريخي. أما أكثر مظاهر آلية عرض السلطة تجليا في هذه الفقرة فهي في قوله "فلم تطيعهم وتعصينا؟"، وفي قوله "اننا أعرف منك فيما يصلح الدين وما يفسده". ففي الأولى نجد أن الخطاب الديني يتحدث عن أهم آلية من آليات عمل أي سلطة اجتماعية وهي فرض الطاعة ومنع العصيان. والطاعة تعني وجود طرفين في العملية الاجتماعية: طرف يفرض رؤيته للعالم والمجتمع. وهو السلطة الدينية وخطابها الثباتي في حالة هذا الكتاب، وطرف آخر يطلب منه تنفيذ هذه الرؤية في الواقع وعدم رفضها بإتيان رؤية أو فعل آخر مختلف عنها. أما قوله "إننا أعرف منك فيما يصلح الدين وما يفسده" فيبرز سمة أخرى في عملية الصراع الاجتماعي هذه. وهي تقديم الخطاب الديني لنفسه باعتباره في موقع الأكثر خبرة بالعالم وتنظيمه، وتقديم الأخر باعتباره جاهلا بذلك ينبغي ساعدته. لقد أظهرت دراسات في تحليل الخطاب والمعرفة مثل كتاب أركيولوجيا المعرفة لميشيـل فوكـو (1972: Fcoucault) وكتاب اللغة والسيطرة لروجر فاولر وآخرين (1979: (Fowler et,al ارتباط المعرفة بالقوة والسلطة الاجتماعية فالمعرفة هنا ليست معلومات مجردة كما قد يتبدى (من طرح الأمور من منظور التعاليم الدينية والعلم بها) وانما تفترض أن المتحدث هو العارف بالسلوك الاجتماعي المناسب (عدم تعليم الأطفال في مدارس أجنبية) ويحاول نقل هذه المعرفة التي يمتلكها الى شخص لا يعلمها. ان المعرفة بهذا المفهوم تغدو مصدرا من مصادر سلطة الخطاب الديني في المجتمع. تلك السلطة التي تحدد السلوك الاجتماعي المقبول. ان عرض السلطة الدينية لقوتها "المعرفية" بهذه الطريقة المباشرة تعتمد على تقنيتين. هما التناص والافتراضات المسبقة. بعبارة عامة فإن التناص يعني أن نصا ما يؤدي وظيفته من خلال ارتباطا بنص آخر، ففي تقنية التناص غير المباشر يتم توظيف لنص مقدس هو النص القرآني. فعبارة "إننا أعرف منك" تشير الى الآية الكريمة "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" (الزمر: 9). أما تقنية الافتراضات المسبقة فتقوم على عملية منطقية استقرائية هي: - من يعرف أفضل (بالتالي أقوى في تأثير فعله الاجتماعي) ممن لا يعرف (مقدمة كبرى) - س يعرف وص لا يعرف (مقدمة صغري) - اذن: س أفضل (وأقوى اجتماعيا) من ص (نتيجة) ان استغلال الافتراضات المسبقة يعتبر من أهم الطرق التي تعمل بها السلطات الاجتماعية. فهي تعرض النتيجة وتوظفها اجتماعيا دون أن تشير الى مقدماتها المنطقية أو بدون أن تضع هذه المقدمات المنطقية موضع التساؤل. وهنا فإن المقدمة الكبرى (من لا يعرف أفضل. وبالتالي أقوى اجتماعيا - ممن لا يعرف) تغفل تماما مع انها لا تطرح حقيقة مثل قولنا ان (سرعة الضوء تفوق سرعة الصوت)، وان (جامعة الدول العربية تأسست عام 1945م) وانما تطرح حكما قيميا يصب في المصلحة الاجتماعية لـ"من يعلمون" ذلك انها تفرض طاعة من لا يعلم لمن يعلم (وعدم الاحتجاج عليه)، وهو بالتأكيد فعل اجتماعي يرتبط بنسق القوى في المجتمع. 2- الموضعة الجاهزة لمتغيرات الواقع الجديد واحتواؤها الآلية الأساسية الثانية التي استخدمها الخطاب الديني لحظة اصطدامه بخطاب التكيف هي محاولة موضعة التغير الاجتماعي ضمن حدود التفسيرات الجاهزة لدى الخطاب الديني. وهذا ينطوي مباشرة على ايحاء وافتراض مسبق أن لا تغير حقيقي قد حدث في النسق الاجتماعي.. وان التغيير الاجتماعي الذي حدث قد حدث ضمن توقعات الخطاب الديني. فالخطاب الديني لديه كما قلنا مسلمات حول وضع المجتمع المسلم (مجتمع الاستقامة) ووضع المجتمع الكافر (مجتمع الضلال والكفر)، ووضع وسيط يحاول فيه ممثلو المجتمع الكافر التأثير في طبيعة المجتمع المسلم بحيث ينحرف عن الطريق المستقيم ويتحول الى مجتمع كافر في ذاته (يتخلى عن الاسلام كليا) أو مجتمع يظهر الاسلام لكنه ليس مسلما في جوهره. ان نظرنا الى حالة التغير الاجتماعي التي حدثت في زنجبار لوجدنا ان بنيتها توفر للخطاب الديني موضعته ضمن هذا المخطط التعميمي للتغيير، فالمجتمع كان مجتمعا مسلما الى أن جاء النصاري واليهود (أعوان الشيطان) الذين بدأ تأثيرهم السلبي في الظهور على أفراد المجتمع المسلم. ويمكننا أن نصف هذا التفسير لحركة المجتمع والتاريخ باعتباره تفسيرا لا تاريخيا يخرج بالأحداث التاريخية من سياقها ليضعها في تصنيفات عمومية كالفعل الايماني وفعل الكفر وفعل التأثر بالكفر، وهو بهذا يخفي النظر تماما عن الظروف التاريخية لهذا التغيير. بمعنى أن الخطاب الديني لا يهتم بالأسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية المباشرة التي قادت وساهمت في إحداث التغيير الاجتماعي، تلك الظروف التي حاول خطاب التكيف شرحها والتركيز عليها من خلال آليته الواقعية والفرضية (المنفعية) كما سنرى لاحقا. اننا إن نظرنا الى كتاب "بذل المجهود" لوجدنا آلية الموضعة الجاهزة من أهم الآليات التي استغلها الخطاب الديني في رده على خطاب التكيف، فعلى سبيل المثال يقول الامام السالمي حول رؤيته لحقيقة المدارس الأجنبية أو المدارس التي يعلم فيها غير المسلمين. "فهو ذريعة الى تدريجكم في المهاوي والقائكم في المهالك. ولابد للفح من حب يقع عليه الطائر، فلو جاهروكم بمرادهم وكشفوا لكم اعراضهم. لوقفت شعوركم. واقشعرت جلودكم واشمأزت قلوبكم ونفرتم عنهم كل نفرة لكن القوم أدري بمصائدكم. واعرف بمكانتكم. فهم أشد من الأفعى لينا وعداوة، وأروغ من الثعلب، واخدع من السراب ولهم في المكر أبواب يعجز عنها الشيطان " (ص 8). نرى هنا أن الامام السالمي يحاول تفسير التغيير الاجتماعي المتمثل في تعليم أولاد المسلمين في مدارس غير اسلامية أو في مدارس يعلم فيها غير المسلمين بتفسيرات جاهزة فنجد المسلم البسيط الذي يحاول الشيطان بمكائده وحيله المختلفة جلبه في صفه. وهو تفسير ينطبق على أي فعل يخالف ما يطرحه الخطاب الديني (وهو ما يجعلنا نقول انه تفسير غير تاريخي). أضف الى جاهز يته فهو تفسير سهل لا يتطلب إعطاء أهمية لعمليات الفعل والتغير الاجتماعيين. حيث ينعدم في هذه الرؤية الطابع الديناميكي للمياة الانسانية والتفاعل الاجتماعي من خلال تصوير التفاعل بين أطراف معدودة هي الشيطان النصراني الكافر والمسلم البسيط. ويتم ذلك من خلال عملية مثالية بسيطة هي خضوع المسلم غير الواعي حسب هذه الرؤية لحبائل الشيطان ومكائده. نجد نفس الآلية تعمل في تفسير الخطاب الديني للبس المسلمين في زنجبار للملابس الأجنبية كالكوت والزنار كما يلي: "أما المنع الاجمالي فهو قوله تعالى: "ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون" أي لا تكونوا مثلهم. ولا تتبعوهم في أحوالهم وقوله تعالى: "ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل". وهؤلاء القوم هم أسلاف اليهود والنصاري، وصفهم الرب تعالى بالضلال والإضلال وانهم يتبعون أهواءهم. وقوله تعالى: "ان تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يرد وكم بعد ايمانكم كافرين" (ص 32). الخطاب الديني هنا يقوم بالاستفادة من النص القرآني كرصيد احتياطي يمكن به موضعة وتفسير أي فعل بشري. فعملية التغير الاجتماعي المتمثلة في لبس الملابس الغربية يتم اختزالها الى ضرب من التأثر بالكفار، ويتم التعامل مع غير المسلمين من المسيحيين واليهود في زنجبار آنذاك باعتبارهم "أسلاف اليهود والنصاري" الذين أمر النص القرآني بعدم اتباعهم لضلالهم (وهنا نجد تأثير استعارة التحرك من موقع لآخر والتي أشرنا اليها سابقا). نلخص ما قلناه حول آلية الموضعة الجاهزة: ان الخطاب الديني يمتلك احتياطيا من الامكانية التفسيرية التي يمكنه بها من موضعة أي فعل اجتماعي دون أن يحتاج الى أي سند اجتماعي أو تاريخي بعينه في عملية التفسير، وهو ما يجعلنا نقول إن الخطاب الديني من خلال إعماله لهذه الآلية يقوم بتقديم تفسير يغفل تاريخية الفعل البشري المتمثل في كونه أمرا واقعيا يتم في أطر تاريخية اجتماعية واقتصادية وسياسية معقدة. (نشير هنا الى أن خطاب التكيف لم تكن عنده مثل هذه الآلية فرد عليها بآلية مضادة تعزز تاريخية الفعل البشري من خلال تفسير واقعي يعطي بعدا مهما للظروف الاقتصادية والسياسية كما سنرى لاحقا). 3- استخدام لغة الصحة الجسدية والنفسية والعقلية من الآليات القليلة التي يشترك فيها الخطابان هو استخدام لغة نفسية في معالجة القضايا الاجتماعية. ففي كلا الخطابين نجد أن ثمة افتراضا مسبقا مفاده أن أطروحات الخطاب هي ما يدعو اليه العقل. ومن خلال أعمال ثنائية مألوفة اجتماعيا في التعامل مع الأمور النفسية (الانسان اما أن يكون عاقلا أو مجنونا)، فإن خطاب الذات يصور باعتباره خطاب العقل والحكمة وما يدعو اليه الانسان السوي، فيما أن الخطاب الآخر يستند ويدعو الى أوهام صنع الجنون. واذا كان الخطابان موضع الدراسة يشتركان في هذه الخاصية إلا أننا نجد أن هذه الآلية أكثر مركزية في الخطاب الديني.لنتأمل مثلا العبارات التالية التي تظهر عمل هذه الآلية: - صدرت مني اليهم اشارة بالنصيحة عن هذا الاعوجاج. ومطالبة الرجوع الى أقوم المنهاج. فصدر منهم هذا الهذيان (ص 6). -دواهي عظمى ومصائب كبرى. يعلم ذلك جميع العقلاه، ولا يخفى الا على الجهلة الأغبياء (ص 10- النبهاني). - وما مثلك أيها الأب الجاهل.. إلا كمن اضاع الجواهر نفاسة وقيمة حتى استفاد عوضها فلوسا قليلة أترى ذلك يعد عاقلا، كلا والله. بل هو مجنون (ص 16- النبهاني). - اعلم أيها المسلم الجاهل والمجنون. لا العاقل الذي خاطر بدين ولده (ص 18- النبهاني). - أأحياء أنتم أم أموات ؟ أعقلا، أنتم أم مجانين ؟ (ص 30). - (في حديث الامام السالمي عن آثار تعلم اللغة الأجنبية) وبذهابه (أي اللسان العربي) يحال بينكم وبين فهم ما جاء به نبيكم عليه أفضل الصلاة والسلام. وكفى بهذا مصيبة لمن عقل. أين العقول معشر الرجال (ص 47). حيث نجد في هذه الأمثلة أن الخطاب الديني يتعامل مع الخطاب الآخر باعتباره نتاجا لأوضاع نفسية أو عقلية غير طبيعية كالجفون والهذيان والجهل. نجد كذلك ان الخطاب الديني يستخدم أيضا لفة الصحة الجسدية في التعامل مع التغير الاجتماعي وخطاب التكيف القادم من زنجبار. فنجد أن التغيير يفسر باعتباره مرضا اجتماعيا، بينما يمثل الخطاب الديني دواء يعيد الجسم الاجتماعي الى حالته قبل المرض. نقرأ مثلا ما يلي: - في وصف من يعلم ابنه في المدارس الأجنبية (مجذوم أصيب بأقبح داء) (ص 16- النبهاني). - فإن أحببت الاطلاع على آفات الأوقات. من هذه اللغات وغيرها من التعليمات والمكائد، التي نصبها للمسلمين أعداء الدين. فعليك بقراءة الهدية الكلامية من أولها الى آخرها (ص 52). - ولو عقلت أيها المعترض المجادل عن الذين يختانون أنفسهم لعلمت العلم اليقين ان الآفة انما جاءت من قبل هؤلاء الذين عيرت أنت الفضلاء على النفرة عنهم (ص 59). وقد يتساءل متسائل "ولكن كيف أن نربط هذا التوصيف لخطاب الذات الديني وخطاب التكيف بلفة صحية - نفسية بالصدام بن الخطابات. وبرغبة الخطاب الديني في ايقاف هذا التغير الاجتماعي؟". للاجابة على السؤال نقول أن الوظيفة الخطابية لهذه الآلية تربط ملكة العقل والصحة بالخطاب الديني وممثليه. فيما نرى أن خطاب التكيف الاجتماعي وممثليه يربطون بحالات نفسية وعقلية وجسمانية غير عادية كالجنون والهذيان والمرض. وهذا يعني أن الخطاب الديني يستغل الافتراضات المسبقة المكونة حول العقل والجنون (أي أن العاقل أفضل من المجنون. والصحيح أفضل من المريض / على نحو يصب في خانة بقاء سلطته الاجتماعية وتنفيذ رؤيته في تنظيم الكون والمجتمع. أن الخطاب الديني يستغل من خلال تفعيل الافتراضات المسبقة الطريقة المألوفة التي يتعامل معها المجتمع البشري مع الحالات الجسمية والنفسية والعقلية غير العادية في نظر المجتمع في تعزيز نظرته الاجتماعية. ففي كلتا الحالتين الجسمية والنفسية يتم التعامل مع الحالات من خلال "معالجتها" طبيا ونفسيا، أو من خلال "حجرها وعزلها" في الحالات المستعصية. وهنا نجد أن المجتمع. بقيما في التعامل مع الصحة الجسدية والعقل. قد تشكل على نحو يماشي ما يطرحه الخطاب الديني في تصويره لخطاب التكيف القادم من زنجبار. فالمعالجة تعني أن يعود العقل والجسد الى حالتهما الطبيعية. أي تلك التي تتسق مع مخطط الخطاب الديني وممثليه. أما الحجر والعزل (الجسدي والعقلي من خلال المقاطعة) فيعنيان أن الخطاب الديني الذي تنتجه السلطة الدينية يدعو على نحو مبطن غير مباشر الى اقصاء الخطاب الآخر، وابعاده عن التأثير في بنية المجتمع وكيفية التفاعل بين عناصره. وهنا فإن آلية ثنائية العقل - الجنون والصحة - المرض لا توفر للخطاب الديني وسيلة لوصف خطاب التكيف الاجتماعي وممثليه فقط. وانما أيضا سبيلا تصوريا لفهم ظاهرة التغير وطرح امكانيات متقبلة اجتماعيا للتعامل مع هذه الظاهرة. 4- التشكيك في غرضية الفعل المتغير وواقعيته ومن الآليات الأخرى التي استخدمها الخطاب الديني في تعامله مع خطاب التكيف التشكيك في غرضية الفعل وواقعيته وهذه الآلية مرتبطة بآلية الموضعة غير التاريخية للفعل البشري. فنجد أن الخطاب الديني يحاول زعزعة البنى الواقعية والفرضية التي استخدمها خطاب التكيف. التي سنتعرض لهما لاحقا. تتم هذه الزعزعة من خلال التشكيك في الحافز المؤدي الى الفعل. والرد على واقعيته. كما في قول الامام السالمي ردا على البعد الاقتصادي الذي يبرر لبس الكوت حيث يقول: "ولعل الفقراء الذين كانوا حولكم جياعا ببركة لباسكم الجديد شباعا، وتالله ما تركتم لباسكم زهدا ولا قناعة ولا اقتصادا، ولا لقصد المواساة لفقرائكم. ولكنه أشرب في قلوبكم حب أعدائكم. فاستحسنتم منهم كل قبيح. واستصلحتم كل فاسد، وتشبهتم بحركاتهم وسكناتهم وتزينتم بهيئاتهم. وطبعتم ألسنتكم على لغاتهم ونبذتم كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام. وسيرة السلف وراء ظهوركم. فآمنتم ببعض الكتاب وكفرتم ببعض واستبدلتم بالرشد غية، وبالهدى ضلالا، وبعتم الآخرة بالدنيا، فما ربحت تجارتكم ولا أنتم مهتدون إلا من رحم الله وتداركه بلطفه". (ص 29). فالإمام السالمي يشكك في الدافع الى لبس الكوت الذي قال عنه المعترض انه مالي لأنه أرخص كثيرا من الجوخة لخفته على الجسد ولأنه "أقل مغرها". هذا التشكيك من خلال إلغاء البعد الواقعي للتغير الاجتماعي حيث يقول "ما تركتم لباسكم زهدا ولا قناعة ولا اقتصادا"، وتقديم تفسير يبعد الفعل البشري عن سياقه وعن العمليات التي ساهمت في ايجاده من جانب والتي يشكل جزءا منها من جانب آخر، فيرى الامام السالمي ان أفعال التغير انما كانت نتاجا لعمليات عامة غير دينية كاستحسان القبيح وحب الفاسد من الأمور. نجد الغاء هذا البعد الواقعي للأمور متمثلا أيضا في رأي ينقله الامام السالمي عن الشيخ يوسف بن اسماعيل النبهاني الذي يرد متهكما على من يدعو الى تعلم اللغات الأجنبية. اذا كانت اللغات الأجنبية متكفلة بسعة الرزق وعلو المنزلة والعز والشرف في الدنيا، فلم نرى هؤلاء المعلمين الذين يتعلم منهم ولدك في المدرسة هم أفقر الناس. وأذلهم وأشقاهم وأتعبهم في معيشتهم. لم يحصلوا شيئا من رفعة الجاه. وعلو المنزلة والعز والشرف في دنياهم. مع كونهم ماهرين في هذه اللغات. وولدك انما يأخذ بعض ما عندهم منها، فلم ينجح ولدك في دنياه بالقليل الذي يأخذه منهم. ويقلقاه عنهم. وهم لم ينجحوا بالكثير الذي أفنوا في تعلمه أعمارهم وغاية ما حصلوه من فوائد ذلك ان صاروا معلمين في المدارس. يشتغلون طوال النهار بمعاشات قليلة لا تكفيهم مع عيالهم الا بقدر الضرورة وخير من معيشتهم. وأوسع وأهنأ وأنفع. معيشة أقل عوام الناس المتسببين بنحو البيع والشراء. كما هو مشاهد، وهنالك جماعة ممن يعرفون هذه اللغات في أسوأ حالة من الاحتياج. لا يتيسر لهم أن يكونوا معلمين. وهم من أحوج الفقراء والمساكين. فلو كانت معرفة هذه اللغات متكفلة بسعة الرزق وكثرة المال. لما كان هؤلاء في أضيق معيشة وأسوأ حال (ص 17). ويقول أيضا: وانظر أيضا الى أغنياء المسلمين. تجدهم من التجار، أهل البيع والشراء، والأخذ والعطاء، وجلهم أو كلهم لا يعرفون هذه اللغات وهم في كمال الرفاهية. ورفعة الجاه. وعلو المنزلة. وسعة العيش. مع حفظ الدين والدنيا، فالرزق والجاه إذن لا يتوقـف واحد منهما على معرفة هذه اللغـات (ص 18). وهنا فإن خطاب الثبات يضع الدافع وراء تعلم اللفات الأجنبية موضع المساءلة عن طريق ابراز عدم واقعيته من خلال ثلاث حجج. أولها ان معلم اللغة الأجنبية نفسه فقير وليس في وضع اجتماعي رفيع. وثانيها أن هناك "جماعة ممن يعرفون هذه اللغات في أسوأ حالة من الاحتياج وثالثها التجار الذين لم تتأثر أعمالهم التجارية ورفاهيتهم بعدم معرفتهم هذه اللغات. ان ما يعنينا هنا ليس صحة هذه الحجج المشككة في جدوى تعلم اللغة الأجنبية وانما موضعها ووظيفتها في الخطاب الديني. حيث انها تمثل فيما نرى آلية التشكيك في مقيتة واقعية وفرضية خطاب التكيف. الآليات الخطابية في خطاب التكيف أما الآليات التي استخدمها خطاب التكيف فهي، كما هو متوقع آليات جديدة تختلف اختلافا جذريا عن آليات الخطاب الديني. سنركز هنا على ما نعتقده أهم الآليات وهي التركيز على غرضية الفعل الاجتماعي وواقعيته، والتشكيك في شرعية السلطة الدينية، واستخدام النصوص الدينية الأصلية استخداما يماشي التغير الاجتماعي ويبرر الأفعال الاجتماعية الجديدة. 1- التركيز على التجربة الواقعية والظروف الاقتصادية إن أهم آلية من آليات خطاب التكيف هي آلية التركيز على واقعية التغير الاجتماعي،فهو تأثير وتأثر وليسا أمرين متخيلين. بمعنى أن الفعل الاجتماعي المتغير الذي يرفضا الخطاب الديني ما هو إلا محاولة واقعية للتلاؤم مع متطلبات التغير السياسي والاقتصادي. فالخطاب يعتمد على ما يحدث في الواقع. حيث يقول المعترض مثلا في تبرير امكانية تعليم الأطفال في مدارس النصاري: "أما الداخل في مدارس النصاري معلما كان أو متعلما، فأوضح لك حالة المعلم حسب المشاهدة... الخ". هذا يعني أن المعترض ينطلق من أمور واقعية، وليست متوهمة، كما أنه يعني أيضا أن المخاوف التي يطرحها الخطاب الديني ليست مخاوف واقعية فالتجربة لا تثبت ذلك انه بهذا يشك في مدى امكانية فندق النظرية الدينية حين يأتي الأمر الى التطبيق. فنظريا يفترض الخطاب الديني أن التعلم في مدارس النصاري (أو على أيديهم) أمر يؤول على صاحبه بالكفر وخلع رداء الاسلام وغير ذلك، أما خطاب التكيف فيرى أن واقع الأمر في هذه المدارس لا يبرر المخاوف التي يطرحها الخطاب الديني، ففي هذه المدارس يتعلم الطالب "التوحيد وشغله، والطهارات وكيفياتها والصلوات ومعانيها..الخ" (ص 7). هذه الواقعية تمتد لتؤدي وظيفة تبريرية. فالتغير الاجتماعي الذي شهدته زنجبار والتكيف مع الوقائع الجديدة لم يكن مجرد رغبة مجردة في التغيير، وانما هو استجابة لمتطلبات واقعية مختلفة، أهمها البعد الاقتصادي. حيث برر المعترض كثيرا من الممارسات التكيفية بأسباب اقتصادية، فحين يتحدث مثلا عن ارتداء المعطف (الكوت) يقول: "الكوت منفردا أخف اضاعة ما من الجوخة والبشت، المنقوشين بالقصب المفضض، البالغ فوق الحاجة - مئة روبية وخمسين، وخمسين روبية وأقلها ثلاثين روبية، وأي اضاعة أكثر من هذا، اذ ثمن واحد من هذين يسد حاجة جمع غفير من الفقراء وهاهم جياع" (ص 28). هنا نرى أن المعترض يفرض لفة مالية تجارية في تبرير التغير الاجتماعي المتمثل في لبس الكوت، بل إنه يربه الجانب المالي بأسباب واقعية أخرى، كالجياع الذين يمكن أن يسد حاجتهم ثمن جوخة واحدة أو بشت واحد. اننا هنا إزاء آلية تربط الواقعي بالاخلاقي وليس الديني بالضرورة، فإطعام الجياع أهم أخلاقيا من لبس الجوخة أو البشت، وهو ما يبرر لبس المعطف، ولو أنه من لبس النصاري الذي أمر النبي عليه السلام بعدم تقليدهم كما يؤكد الخطاب الديني. هذه الواقعية يرفضها الامام السالمي فيرد عليها متهكما: "لعل الفقراء الذين كانوا حولكم جياعا ليسوا ببركة لبساكم الجديد شباعا". مثل آخر على آلية التركيز على البعد الواقعي للفعل الاجتماعي ازاء البعد الديني نجده في تبريره لتعلم اللغات الأجنبية وتعليمها. فيقول المعترض: "ان الضرورة داعية اليهما الآن، ولاسيما في هذا الظرف، لأن المحاكم والمعشرات بأيديهم، ولا يتوصل الى شيء من هذه الأشياء الى ما يطلبه الانسان من حقوقه الا بعد النصب وذهاب شطر ماله اذا كان لا يعرف هذه اللغة الأجنبية" (ص 46). هنا نجد أن "الضرورة" المرتبطة بالظرف التاريخي "الآن" تحكم الفعل الاجتماعي (وهو مثال على عدم القدرة على بقاء المربع مربعا، وضرورة تحوله الى مثلث كما أوضح المخطط الشكلي الذي شرحناه سابقا) حيث انها، أي الضرورة، تشكل دافعا نحو اتيان فعل اجتماعي مغاير لما عهده المجتمع، فالجانب الاقتصادي المتمثل في اللجوء الى المترجمين وهو أمر مكلف ماليا يحكم الفعل الاجتماعي. ان هذه الواقعية في الطرح تعكس تغيرا مهما في النسق الاجتماعي العماني في تلك الفترة ومحاولة من عموم المجتمع في زنجبار للتأقلم مع هذا التغير مماشاة لعوامل حياتية. أضف ال هذا أن خطاب التكيف يطرح أغراضا أخرى لتبرير الفعل المغاير والمتغير. ففي قضية لبس الكوت نجد أن أحد أسباب تبرير لبس هذا اللباس الغربي هو "خفته على الجسد" (ص 28)، ونجد في قضية حلق اللحية أن المعترض يرى أن أسبابا كثيرة تجعل منه أمرا مقبولا متسائلا استنكاريا: "أليس لنا أن نتزين لنسائنا ونتصنع؟ ألسنا مأمورين بالنظافة والطهارة كتقليم الأظافر وحلق الشعور التي في الصدور؟" (ص 54). هنا نجد أن الغرض الشخصي - الاجتماعي (متطلبات النساء) مضافا اليه الفرض الصحي (نظافة الجسد) يقدمان تبريرين لحلق اللحية الذي هو فعل خارج عما تقبله السلطة الدينية، هذا التبرير غير الديني هو ما جعل الامام السالمي يورد ردا حاسما على المعترض فيقول: "فأجبته بما نصه: ما كنت أحسب أن يمتد بي زمني حتى أرى دولة الأوغاد والسفل ما رأيت عجبا كاليوم، سبحانك هذا بهتان عظيم" (ص 54). نخلص أن المعترض في مثل هذه الحالات لا يتحدث حول التشكيك في المصادر الدينية أو اعادة تفسيرها، بل انه يتجاوز ذلك كله الى تبرير الفعل الانساني بأغراض حياتية بسيطة كمتطلبات راحة الجسد والتقرب الى النساء ونظافة الجسم، وهنا فإنه يمارس فعلا اجتماعيا مهما في سياق التغير الاجتماعي وصراع الخطابات والقوى الاجتماعية يتمثل في فك الارتباط الذي فرضه الخطاب الديني والمؤسسة المنتجة له بين الفعل البشري من جانب والتفسير الذي يقدما الخطاب الديني للنصوص المقدسة ونسق طروحاته من جانب أخر، مما يعكس، فيما نرى، تغيرا كبيرا في البنية الاجتماعية وتفاعلها. 2- التشكيك في حقيقة الشرعية الاجتماعية للسلطة الدينية اضافة الى الغرضية الواقعية التي طرحها خطاب التكيف فإنه يتقدم خطوة أخرى في محاولته تغيير النسق الاجتماعي تتمثل في التشكيك في حقيقة الشرعية الاجتماعية لممثلي السلطة الدينية. اننا نعتقد أن هذا التشكيك ذو دلالات اجتماعية مهمة، ذلك أنه يعني أنه يعزز ممارسة اجتماعية تخفف من سلطة العلماء ومن صحة خطابهم، ليس الصحة التاريخية، كما بينت الأ لية السابقة، بل حتى الصحة الدينية ذاتها. نقرأ مثلا: "ان كانت شريعة محمد (ص) ليس فيها توسع لهذا الكوت، فالأولى لأهل زنجبار الخروج من زنجبار، ولا فائدة في قوله (ص) جئت ميسرا لا معسرا) (ص 28). ان المتحدث الذي يستخدم لفة تهكمية يوحي بطريقة مبطنة بجهل عالم الدين، ذلك أولا بقوله باستحالة ضيق الشريعة وعدم استيعابها للمتغيرات، الشكلية، في المجتمع المتمثلة في لبس الكوت، وثانيا بايراده حديثا للرسول عليه السلام يرى فيه سندا للفعل الجديد. انه بهذا يقول ان الدين ليس بالضيق الذي يطرحه علماء الدين وان ثمة نصوصا أصلية كآيات النص القرآني والأحاديث النبوية، تخالف رؤية هؤلاء العلماء، وهو ما يستلزم أن العلماء لا يعلمون كل الدين، وبهذا فإنه يشكل محاولة لسلب هؤلاء العلماء وضعهم الاجتماعي الأساسي في المجتمع، ولسان حاله يقول "إذا كان العلماء لا يعلمون كل الدين فلم طاعتهم ؟". مثال آخر نجده في حديث المعترض عن التفاعل الاجتماعي بين المسلمين وغيرهم في زنجبار حيث يقول: "واما التداخل عند المشركين كتداخل الزنجباريين لا يقدرون أن يمتنعوا، لأن أزمة الأمور بأيدي المشركين ودواعي الامتحان دائرة في كل حين، وما ذلك الا لامتناع الفضلاء من تولية الحكم عند هذه الدولة، حتى انقاد الأمر اليهم، واحاجوا الناس الى التداخل، زعما منهم لم بقية أهل الدين الذين فروا من زنجبار) انه غير جائز، فهذا الآن الواقع علينا بسبب التخاذل" (ص 58لم. هنا نجد أن المعترض يشك في المؤسسة الدينية وخطابها الذي أدى الى الأوضاع السيئة التي تعيشها زنجبار، ويعتبر خطابهم ليس إلا "زعما"، وهو تشكيك أحس الامام السالمي بخطورته فعاجله رادا: "لو تدري ما قلت في هذه الكلمات لأكثرت الزفرات وأطلت العبرات، كيف تقول -زعما منهم أنه غير جائز - كأنك المكذب بذلك.. وقد لمت أنت الفضلاء بما أثنى الله به عليهم في كتابه العزيز" (ص 58). نجد استخدام هذه الآلية أيضا في مسألة حلق اللحية حيث يقول المعترض الزنجباري الثاني: "هل حلق اللحية وغلفها من كبير الذنوب؟ أم من صغيرها؟ فإن كان منهما أو من أحدهما فهل من دليل من الكتاب والسنة؟ او من السنة وحدها؟ آتونا به، والا فلم تحرموننا المباح لنا من غير ايضاح ؟" (ص 54). ان اللغة هنا تهكمية تجعل من منتج الخطاب الثباتي في خانة الجهلاء الذين يفتون دون علم حقيقي بمصادر الدين الأصلية كالنص القرآني والسنة النبوية، ان «والا فلم تحرموننا المباح...؟» توحي بأن القضية صراع اجتماعي ساحته الفقه، هذا الصراع يقوم أساسا بين الخطاب الديني السائد وخطاب التكيف والتغيير الذي يرى أن الخطاب الديني لا يقوم على أسس دينية حقيقية وانما ينتج أفعالا لا تجد سندها في لب الدين. ان هذا التشكيك في مكانة علماء الدين يبرز تغيرا جوهريا في بنية المجتمع العماني الذي أدى فيه هؤلاء العلماء دورا أساسيا هو دور السلطة السياسية الحقيقية التي تقيم الامام وتعفيه، وتمارس سلطتها أيضا من خلال التحكم في الأفعال الاجتماعية الأخرى من خلال الفتوى والاستشارة، قد يرى البعض هنا أن المعترض جاهل بالشريعة وبالنصوص الاساسية وانه يفسر هذه النصوص تفسيرا خاطئا، لكننا نقول هنا إن امكانية جهل المعترض أو علمه التام ليست محور حديثنا هنا، فالدلالة التي نستنتجها هنا هي دلالة اجتماعية مفادها ان تحولا قد حدث في بنية المجتمع العماني أدى الى مثل هذا الخطاب الذي يستخدم هذه اللغة التشكيكية تجاه علماء الدين. 4- اثار ة تساؤلات حول تفسير الخطاب الديني للمصادر الأساسية واعادة قراءة الكتب الأساسية وتفسيرها من الآليات الأخرى التي اعتمد عليها خطاب التكيف آلية »التعامل الجديد مع النصوص المقدسة، ويتجل ذلك مثلا في التساؤل حول غرضية بعض آيات النص القرآني فيقول المعترض في حديثه عن المدارس التي يدرس فيها الأجانب: «وأي فائدة في قوله تعالى (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) وقوله: (ولكن ذكرى لعلهم يهتدون)، ام هذا خاص به (صلى الله عليه وسلم) دون غيره» (ص 7). فالمعترض هنا يحاول التعامل بنفس الأدوات الخطابية الرئيسية عند الخطاب السائد، وهي النصوص المقدسة، ويطرحها فإنه يعني انه واع بها وان فعله الذي تعتبره المؤسسة الدينية غير مقبول يمكن تبريره من خلال النصوص المقدسة ذاتها. وخطابيا فإن هذا يعني استخدام نفس آليات الخصم في مواجهته، اضف الى ذلك انه يطرح مفهوما جديدا لصحة النصوص المقدسة يتمثل في "الفائدة" التي تأتي بها هذه النصوص على المستوى الواقعي. نجد أيضا تبرير الفعل المغاير الجديد في حديث المعترض عن الملابس الأجنبية حيث يقول: "ولقد صرح الأثر عنه (ص) -أهديت له كرزية من الروم، ضيقة الاكمام، كان اذا أراد الوضوء يخرج الوضوء من أذيالها" (ص 28). وهنا فإن المعترض لا يرى بأسا في لبس الكوت فلديه دليل من السنة النبوية ان النبي (ص) قد لبس لبسا غير مألوف من لبس الروم، وهي محاولة لتبرير الفعل بتقبل مثيلا في النصوص المقدسة التي هي لب الخطاب الديني. وفي الحديث عن تعلم اللغة الأجنبية نجد أن المعترض يقول: «أو ليس كان لرسول الله (ص) مترجم يهودي بالعبرية ؟ ثم اختار اشخاصا من رجاله ليتعلموا تلك اللغة، فلما ضبطوها اكتفى بهم، أما في هذا الأمر ما يدل على الجواز؟ ان لم نقل بوجوب تعليم هذه اللغة فحينئذ على ماذا النزاع والتشديد في غير مقام» (ص 46). وهنا فإن المعترض لا يشك فقط في رؤية الخطاب الديني في هذه القضية، تلك الرؤية التي، كما يقول تنازع وتشدد "في غير مقام"، بل انا يتجاوز ذلك لطرح رؤية تستخدم مفردات لغة الخطاب الديني، فيرى أن تعلم اللغة اما أن يكون حكما "الجواز" أو حتى «"الوجوب" وهنا فإن اختيار الألفاظ ذات دلالة فهو استغلال مضاد لمفردات الجانب الفقهي في الخطاب الديني نفسه من ناحية، ومن ناحية أخرى يعتبر محاولة لتبرير تعلم اللغة الأجنبية من خلال تتبع حالات مشابهة سجلتها السيرة النبوية قام فيها أصحاب النبي (ص) عليه السلام بتعلم اللغة العبرية لفرض حياتي في تلك الفترة، بل انه يعيد تفسير حادثة السيرة ويجعل حكمها أقرب الى الوجوب، وليس المنع كما هو طرح الخطاب الديني. اجمالا فإن هذه الآلية تعتمد على تعامل خطاب التكيف مع الأمر الذي يشك الخطاب الديني في شرعيته من خلال الرجوع الى نفس المصادر الأساسية للخطاب الديني المهيمن واعادة تفسيرها بما يناسب الوضع الجديد المقبول في سياق التغير الاجتماعي كتعلم اللغة ولبس الكوت وغيره. ان العودة الى النصوص الأصلية هنا لا يمكن اعتبارها تقربا من الخطاب الديني ومؤسسته بل انه تجاوز لرؤية ذلك الخطاب التي تعتمد على تضخيم أحداث معينة والمبالغة في دلالاتها الاجتماعية (كالتحريم والمنع) والتغطية على حالات أخرى توجد في النصوص المقدسة قد لا تتماشى مع هذه الرؤية، بمعنى أن خطاب التكيف قد اكتشف أن الخطاب الديني يستثمر بعض النصوص الأساسية في تعزيز سلطته الاجتماعية، وهو ما يرد عليه خطاب التكيف بمنفعية موازية تقوم على تفسير النصوص المقدسة المنتقدة على نحو يماشي الأفعال الاجتماعية الجديدة. قبل أن أشير الى استنتاجات هذه الدراسة أود أولا أن أشير الى محدودية هذه الدراسة، في عادتها وفي منهجها التحليلي وفي النتائج التي توصلت اليها، ان هذه الدراسة اعتمدت على كتاب واحد فقط هو كتاب "بذل المجهود" مما يعني أن ما توصلت اليه من نتائج حول المجتمع العماني في تلك الفترة وتفاعله الخطابي مرتبط حصرا بهذه المادة، بمعنى أن الدراسة الأمثل في تصوري، تتطلب تحليل مجموعة كبرى من النصوص (Corpus) من تلك الفترة وليس كتابا واحدا فقط، أضف الى ذلك أن المنهج الذي اتبعناه في التحليل، أعني ربط الاطروحات بالنسق التصوري والآليات الخطابية ينبغي أن يسند بتحليل أدق لكيفية استخدام كلا الخطابين للمظاهر والبنى اللغوية كالتراكيب النحوية والضمائر وترابه الجمل والفقرات وغيرها. ان طبيعة المادة وخطوات المنهج التحليلي المتبع يحدان إذن من عمومية النتائج التي توصلت اليها الدراسة. الا أن هدفنا الأساسي لم يكن الدراسة الشاملة لتلك الفترة من التاريخ المعرفي العماني وانما سعينا فقط الى محاولة ايضاح ارتباط اللغة والخطاب بالبنية الاجتماعية التي وجدت في ذلك الفترة وتفاعلها الداخلي، وهو ما أرى أن هذه الدراسة، رغم المحدودية الموجودة، قد أنجزته. حيث حاولت هذه الدراسة التحليلية البسيطة ايضاح بعض مظاهر التفاعل بين اللغة والسياق الاجتماعي التي توجد فيه، وجادلت من خلال أمثلة من كتاب "بذل المجهود" في مخالفة النصاري واليهود" للامام نور الدين السالمي بأن اللغة تعكس الواقع الاجتماعي الذي يتم استخدامها فيه، وتشارك فيه مشاركة فعالة من خلال تعزيز ممارسات خطابية معينة. ان اللغة هنا تغدو فعلا اجتماعيا، ودراستها ينبغي أن تتجاوز دراسة بنيتها البسيطة كالنحو والصرف والعروض، فهذه الجوانب رغم ثرائها الداخلي فإنها تعجز عن الكشف عن الجوانب الاجتماعية في اللغة. ان الانسان كائن اجتماعي ولذا فإن على الدراسات اللسانية أن تجعل من "اجتماعية" الانسان محورا أساسيا من محاورها البحثية، لقد أبرزت دراستنا مثلا أن اللغة ليست كائنا محايدا، وانما هي أداة تستخدم في ميادين الصراع الاجتماعي والايديولوجي وغيره". لقد أوضحت در استنا أيضا أن الخطاب الديني الذي تجل في كتاب "بذل المجهود في مخالفة النصاري واليهود" للامام نور الدين عبدالله بن حميد السالمي كان خطابا يتسم بتناسقه وانسجامه الداخلي، فالنسق التصوري كان ينسجم مع الأطروحات التي قدمها ذلك الخطاب، متماشيا كذلك مع لغته. أما خطاب التكيف. فبالرغم من آلياته الواقعية والغرضية التي تجلت بوضوح فيه، فإنه لم يكن خطابا منسجما داخليا، نجد بعض مظاهر الاضطراب الداخلي مثلا في اعتماده لبعض الآليات الاستراتيجية في الخطاب الديني كمركزية النصوص الدينية وأهميتها كمخطط لتنظيم الكون والمجتمع في جانب، وتجاوز تأثير هذه النصوص والتعامل مع المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية من خلال مفاهيم جديدة كمفهوم الضرورة التي تدعو الى التكيف من جانب آخر. ولا يمكننا أن نقدم هنا تفسيرا قاطعا لهذا الاضطراب في البنية الداخلية لخطاب التكيف وسوف نقتصر على فرضية أشرنا اليها في در استنا وهي أن المجتمع كان يمر بمرحلة تغير كبري، وان خطاب التكيف كما نجده فيما يطرحه المحتجان الزنجباريان في كتاب "بذل المجهود" كان مرحلة أولى في التنظير الاجتماعي لهذا التغير، وكما هو معهود فإنه في بداية التغيرات الاجتماعية الكبرى تتداخل التصورات في الخطابات المختلفة، الى أن يتم التحول الكامل في بنية المجتمع والممارسة الاجتماعية الموجودة، بحيث تظهر خطابات جديدة كليا، أو بحيث أن الخطابات المبكرة، مثل خطاب التكيف، تتطور هي الأخرى وتطور من مفاهيمها وتصوراتها على نحو يخلق انسجاما داخليا في طروحاتها وبنيتها التصورية. ان هذه ليست الا فرضية ينبغي، فيما نرى، تقصيها بحثيا من خلال وثائق جديدة حول تلك الفترة وبمناهج بحثية كاشفة لموضوع البحث. على مستوى أعم فإن هذه الدراسة قد أوضحت أن عمان شهدت في مطلع القرن العشرين تجليات لحالة تغير اجتماعي تمثل في مظاهر جديدة لم يألفها المجتمع العماني مثل تعلم اللغة الأجنبية ولبس الملابس الغربية كالمعطف أدت ال صدام بين خطابين: الخطاب الديني الذي كان يسعى الى كبح حركة هذا التغير والعودة بالوضع الاجتماعي الى الوضع المألوف، وخطاب يدعو الى التكيف مع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يفرضها التغيير، مستخدما آليات خطابية جديدة كالتركيز على غرضية الفعل وواقعيته الاقتصادية والاجتماعية. نتوقف في خاتمة هذه الدراسة لنقول أن البناء المعرفي العماني غاية في الثراء، وانه على الرغم من الدراسات المعمقة المتفرقة الا أنه لم يدرس على نحو منظم وشامل، فدر استنا البسيطة هذه لكتاب "بذل المجهود" للامام نور الدين السالمي قد أوضحت فيما نرى جوانب مهمة عن حياة المجتمع العماني وتفاعله في مطلع القرن وهو ما يجعلنا ندعو الى توجه بحثي يتفحص التراث العماني بمناهج جديدة تتجاوز الوصف البسيط له ال جوانب تحليلية اعمق تتناول مثلا دوره الاجتماعي وما يعكسه عن حياة المجتمع في عمان في فترات التاريخ المختلفة. قائمة المصادر والمراجع العربية 2. أبوزيد، نصر حامد (1995): النص، السلطة، الحقيقة، المركز الثقافي العربي: الدار البيضاء. 2. اركون، محمد (1997، الترجمة العربية): (نزعة الانسنة في الفكر العربي: جيل مسكويه والتوحيدي، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي: بيروت - لندن. 4. السالمي، نورالدين عبدالله بن حميد (1995، الطبعة الأولى): بذل المجهود في مخالفة النصاري واليهود، مكتبة الامام نورالدين السالمي: عمان. 5. السالمي، نور الدين عبدالله بن حميد (1995، الطبعة الاول): روض البيان على فيض المنان في الرد على من ادعى قدم القرآن، تحقيق عبدالرحمن بن سليمان، مكتبة السالمي: بدية عمان. 6- ليكوف، جورج، وجونسن، مارك (996ا،الترجمة العربية) الاستعارات التي نحيا بها، ترجمة عبدالمجيد جحفة دار توبقال للنشر: الدار البيضاء. غير العربية 1 - Fairclough, N. (1989) Language and Power.Longman, London. 2 - Fairclough N. (1992): Discourse and Social Change, Polity Press: Cambridge. 3 - Fairclough, N. (1995): Critical Discourse Awareness, Longman: London. 4 - Fairclough, N. and R. Wodak (1997): Critical Discourse Analysis, in T. A. van Dijk (editor) Discourse, as Social Interaction (Discourse Studies: A Multidisciplilnary Introduction, Volume,2), Sage Publications : London /Thousand Oaks/New Delhi. 5 - Foucault, M. (1972): Archaeology of Knowledge , Tavistock Publications,. 6 - Fowler, R. (1996) linguistic Criticism, Oxford University Press: Oxford/New York. 7 - Fowler, R. Hodge, B. Kress, G. Trew, (1979): Language and Control, Routledge & Kegan Paul: london /Boston/Henley. 8 - Johnson, M. (1987): The Body in the Mind: the Bodily Basis of Meaning , Reason and Imagination, University of Chicago Press: Chicago. 9 - Lakoff, G. (1987 : Women, Fire and Dangerous Things: What Categories Reveal about the Mind, Univerisy of Chicago Press: Chicago. 10 - Lakoff, G. and Johnson, M. (1980) : Metaphors We Live by , University of Chicago Press: Chicago. 11 - Schaffner, C. (1995): The 'Balance' Metaphor in Relation to Peace, in C. Schaffner and A. L. Wenden, Language and Peace, Dartmouth: Adershot/ Brookfield/Singapore / Sydney. الحواشي 1- ابعادا للبس محتمل تنبغي الاشارة الى أن نورالدين عبداثه بن حميد السالمي لم يكن إماما بالمفهوم السياسي لمصطلح «الامام» أي القائد السياسي كما تعنيه النظرية السياسية في المذهب الأباضي وغيره، وكما تحقق تاريخيا في الحياة العمانية، انما يضاف اليه لقب "الامام"، كما في هذه الدراسة، تقديرا واحتراما لدوره العلمي ومكانته في تجديد فكر المذهب الأباضي. 2- تشير الخاتمة الى تاريخ تدوين الكتاب "وكان الفراغ من تسويده عشية السبت لست بقين من شهر الله المحرم سنة ألف وثلاثمائة وثماني وعشرين للهجرة"، وهذا يشير الى أن الكتاب قد دون في فترة متأخرة من حياة الامام نورالدين السالمي، حيث توفي رحمه الله في 5 ربيع الأول من عام 1332 للهجرة أي في عام 1914م (انظر السيرة الموجزة لحياته في كتابه "روض البيان على فيض المنان في الرد على من ادعى قدم القرآن"، تحقيق عبدالرحمن السالمي (1995). 3- نعتمد هنا التفرقة بين الطروحات الكبرى (Macropropsitions) والطروحات الصغري (Micropropositions) فالطروحات الكبرى تمثل الأفكار المحورية التي يقدمها نص أو مجموعة من النصوص أو خطاب اجتماعي معين أما الطروحات الصفري فهي تفاصيل الطروحات الكبرى، أي الأفكار التفصيلية الموجودة في النصوص أو الخطابات. تقول كرستينا شافنر (Schaffner: 1995) "ان البنية الدلالية لنص من سلسلة منظمة من الطروحات يتم تقديمها على نحو مترابط في بنى معينة في مستوى سطح النص (أو ظاهره) وحين يستوعب القراء النص فإنهم يقومون بتقليص وتنظيم المعلومات من خلال استخدام عمليات ذهنية (أي، القوانين الكبرى للحذف والتعميم والتشكيل سعيا وراء البنى الدلالية الكبرى للنص" (ص 76، ترجمتي: الحراصي). 4- الاستعارة التصورية أو ما اصطلح عليه في اللغة الانجليزية بـ Conceptual metaphor تشير الى عملية ذهنية يتم فيها تشكيل (أو اعادة تشكيل) بنية مجال أو تصور مجرد من خلال استخدام ما نعرفه من البنية الشكلية والوظيفية لمجال مادي، واذا كانت الاستعارة عملية ذهنية فإن ما يسمى في العادة استعارة ليس الا تعبيرا أو تجليا لغويا للاستعارة الذهنية من الاستعارات التصورية التي نستخدمها في الحياة اليومية ان (المناظرة الفكرية معركة) والتي من خلالها نستخدم تعابير لغوية مثل "إن حجته ضعيفة". "لن تستطيع ان تدافع عن هذه الفكرة"، و"ان هذه النظرية لا يمكن مهاجمتها". بايجاز ان الاستعارة هنا ليست في اللغة فقط وانما في الذهن والمجال التصوري. الاستعارة الاستراتيجية هي في فهمي تلك الاستعارة التصورية الذهنية التي لها دور أساسي في تشكيل اطروحات طرف من أطراف واقع اجتماعي - سياسي - سأوضح المفهوم في سياق عربي. يوجد من يرى ان "جميع العرب أخوة" وان "الدول العربية دول شقيقة، إن "الوطن العربي بيت واحد" وهذا يعكس طرحا سياسيا يؤكد الوحدة العربية من خلال الاستعارة الاستراتيجية (العرب عائلة واحدة) في حين نجد أن هناك من لا يرى هذا الطرح حيث يعتقد البعض ان الدول العربية هي دول مستقلة ورغم المشتركات الثقافية فيما بينها الا أنها لا "ترتبط" ببعضها الآخر سياسيا، وهذا الطرح يستغل استعارة استراتيجية أخرى وهي استعارة (الاستقلال التام) لكل دولة وعدم وجود (ارتباط) لازم بين الدول العربية. 6- النظرية التجريبية أو Experiential Theory هي نظرية فلسفية لها دلالات في غاية الأهمية فيما يخص بعض جوانب التفكير واللغة، طور هذه النظرية، من بين آخرين، كل من جورج لاكون ومارك جونسن، ونرى أن التجربة الجسدية والمادية هي الاساس الذي يتحكم في تصوراتنا وفهمنا للعالم والطريقة التي نجعل فيها من العالم أمرا منظما ومفهوما. فتوازن الجسد وعدم وقوعه في الأرض يمكننا من التعامل مع الأمور النظرية كالأفكار كأن نقول "مقال فلان يفتقد التوازن المنطقي" وكالامور النفسية كأن نقول "فلان شخص غير متزن". وكالقضايا السياسية حيث نجد مصطلحات مثل "تعزيز التوازن العسكري في المنطقة". ان تجربة التوازن الجسدي وبنيتها الداخلية تسيطر على تعاملنا مع هذه الأمور النظرية التي نفهمها مجازيا من خلال معرفتنا بالتوازن الجسدي. انظر لاكوف وجونسون(Lakoff and Johnson: 1980) أو في ترجمته العربية التي صدرت عام 1996،. انظر المراجع، وجونسون Johnson,1987)) ولاكوف (Lakoff: 1987).. 7- لن نتمكن هنا من تقديم عرض شامل لتطور البحث في نقد المعرفة واللغة ولكن يمكن لمن يرغب في الاستزادة والاطلاع على كتاب ميشيل فوكو «اركيولوجيا المعرفة (Foucault: 1972)، وكتاب روجر فاولر "النقد اللغوي (Fowler: 1996)"، وكتب نورمان فيركلان "اللغة والقوة (أو السلطة (Fairclough: (1989) (و "الخطاب والتعبير الاجتماعي (Faurclough: 1992)" و "الوعى النقدي باللغة" (Fairclough: 1995) انظر المراجع غير العربية. 8- على الرغم من وجود بعض الدراسات المتفرقة التي تحاول تغطية هذا الجانب عربيا مثل دراسات محمد أر كون (1997 مثلا/ ونصر حامد أبوزيد ( 1995 مثلا) إلا أننا نرى أنها لم تشكل تيارا واضحا في المنتج البحثي العلمي العربي، وفي المؤسسات الاكاديمية والبحثية كالجامعات ومراكز البحوث. | |||||
الخميس، 1 أبريل 1999
التحليل النقدي لصدام خطابين ودلالاته الاجتماعية من خلال كتاب "بذل المجهود في مخالفة النصارى واليهود" لنور الدين السالمي
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)