| |||||
في ميدان علوم الانسانيات بدا كتاب "الاستعارات التي نحيا بها" (1) لجورج لاكون ومارك جونسون ثورة حقيقية في رؤية الاستعارة وآليتها ودورها الجوهري في كثير من أمور حياتنا، لكن الذي لم يتوقعه أحد هو أن يقود هذا الكتاب الى توجه فلسفي يقوم على أساس مفهوم التجسد، أي الدور الأساسي للجسد والمادة عموما في تشكيل كثير من رؤانا في جوانب حياتنا البشرية، بل، وهو الأخطر، في تشكيل أنماط التفكير غير المادي، كالفكر الفلسفي الذي هو، كما يرى كثيرون، خلاصة صفاء التفكير البشري. هدفنا في هذا المقال هو تقديم عرض لهذا الطرح الفلسفي الجديد من خلال استعراض لأهم اطروحاته كما قدمت في كتب رائديها لاكون وجونسون، وسنتبع هذا العرض بترجمة لجزء من الفصل الأخير من آخر كتبهما وهو كتاب Philosophy in the Flesh الفلسفة في الجسد الذي صدر في مطلع هذا العام 1999. المجاز والاستعارة قبل "الاستعارات التي نحيا بها" على مر تاريخ التفكير البشري توقف كثير من المفكرين والبلاغيين والنقاد أمام ظاهرة الاستعارة، ورغم الاختلافات البسيطة حول كنه الاستعارة وآلية عملها هنا وهناك الا أن الأسس التي حكمت رؤية الاستعارة تقليديا كانت ثابتة ويمكن تلخيصها فيما يلي: 1- الاستعارة هي أمر من أمور اللغة: بمعنى أن الاستعارة هي0ظاهرة لغوية يتم فيها استخدام لفظ عوضا عن لفظ آخر على أساس التشابه بين طرفيها. 2- يمكن تقسيم الاستعارة بثكل عمومي الى قسمين، أولهما الاستعارة المبدعة وهي التي نجدها في الأدب شعرا ونثرا، ويمكن التدليل عليها بالسطر الأول من المقطع التالي من احدى قصائد سيف الرحبي: الصباح أرخى قلوعه هو الآخر تبدأ يومك متطيرا، مرتبكا تخطو من سريرك نحو الحمام كأنما تحمل ثقل العالم على كتفك ملاحقا بالحشود والنميمة (2) حيث تعتبر الرؤية التقليدية «الصباح أرخي قلوعه» استعارة خلاقة مبدعة، فإرخاء القلوع هو من شأن السفن بينما الصباح في واقع الأمر ليمر سفينة وانما هو فترة من فترات اليوم، والشاعر في هذه الاستعارة شبه وصول الصباح بالسفينة التي ترخي قلوعها. اضافة الى هذا النوع فإن ثمة نوعا آخر من الاستعارة وهو ما اصطلح عليه باسم الاستعارة الميتة، وهنا فإن شعور الانسان بوجود الاستعارة يفقده كقولنا "غرق أحمد في التفكير" فالفعل "غرق" استعارة ميتة، فرغم معرفتنا أن التفكير ليس بحرا يمكن الغرق فيه إلا أننا لا نتوقف كثيرا عنده ولا يدهشنا كما هو شأن الاستعارات المبدعة، والسبب يكمن، كما ترى الرؤية التقليدية في أن هذه الاستعارات شاعت بين الناس الى أن بلفت حدا اصبح فيه الانسان لا يشعر بوجودها أو بكونها استعارة. 3- كل استعارة تحتوي على تناقض منطقي بوجه من الوجوه، وذلك بسبب عدم مباشرتها وهو عكس الكلام غير الاستعاري الذي يمكن قبوله منطقيا، فقولنا إن «السفينة أرخت قلوعها» أمر مقبول منطقيا، حيث أن للسفينة قلوعا يمكن لها عن طريق ارخائها أن ترسو، أما قول سيف الرحبي "الصباح أرخى قلوعه" فهو، حسب الرؤية التقليدية، يحتوي على تناقض منطقي ذلك أن الصباح لعير سفينة وليس به قلوع يمكن ارخاؤها، اضافة الى أن الزمن ليس بحرا.. الخ، ولحل هذا التناقض المنطقي لابد من رد الأمور الى أصولها المنطقية، ومحاولة رؤية التشبيه المتخفي تحت الاستعارة، وهنا فإن السبيل الوحيد لقبول المنطق للاستعارة هو عن طريق ردها الى ضرب من التشبيه، كقولنا «ان الصباح حيث يأتي يكون مثل السفينة حيث تصل وترخي قلوعها». أدت هذه الأفكار الأساسية التي سادت الرؤية التقليدية للاستعارة الى نتائج نظرية سادت فتسيدت الى أن اعتبرت حقائق لا يأتيها الباطل، فخارج نطاق الأدب، والشعر تحديدا، أضحت الاستعارة أمرا هامشيا ليسر له دور أساسي في تشكيل العقل البشري وأنماط التفكير، وفي تشكيل الأفكار ذاتها في بناها المختلفة. وان أعطى بعض النقاد والبلاغيين دورا جماليا للاستعارة فقد كان هناك دائما المناطقة الذين سعوا دائما الى «التناسب المنطقي» الذي لا يقبل بأي دور لما يبدو ظاهرة غير منطقية في تشكيل العقل البشري. الاستعارات التي نحيا بها يوحي عنوان الكتاب بمضمونه، حيث لا يعتر الكاتبان الاستعارة من ممتلكات الادب و إنما أمر من الأمور التي نحيا بها، كالهواء والماء. و هذا الفهم هو انقلاب تام على التفكير التقليدي الذي أوضحنا أسسه فيما مضى. ويمكن تلخيص النظرية الاستعارية التي طرحها هذا الكتاب فيما يلى من نقاط: 1. الاستعارة أساسا ليست من أمر اللغة و إنما هي ظاهرة ذهنية قبل أن تكون لغوية: حيث طرح الكتاب روية مفادها أن الاستعارة هي عملية ذهنية وليست لغوية و ان ما اصطلح عليه تقليديا بكونه استعارة ليس إلا تجليا لاستعارة الذهنية أو تعبيرا عنها لننظر إلى العبارات التالية: هذه الفكرة ليست واضحة لدي سأدافع عن افكارك امام الملأ رغم اني لا أرى ما تراه لو فكرت جيدا لرأيت بأم عينك كيف أن أفكاره ستقودنا جميعا إلى الهاوية البيان والتبيين هذه رؤية جديدة لتشكيل المجتمع في التعبيرات السابقة نجد ان ثمة منظومة تربط التعبيرات السابقة وهي أنها جميعا توحى بان عالم الافكار هو عالم أشياء يمكن رؤيتها. ويمكن ان تكون واضحة أو غامضة تحتاج إلى بيان وتبيين كما هو عنوان كتاب الجاحظ. إن هذه التعابير تشير إلى مستوى اعمق يحكمها جميعا وهو مستوى الاستعارة المفهومية أو التصورية الفهم رؤية ؟ وهذا المستوى لا يحدث في اللغة وإنما في الذهن وفى فهمنا الافكار و عملية التفكير ذاتها. يحدث هذا لأن عالم الأشياء المادية معروف لدينا معرفة جيدة بينما عالم الافكار هو عالم مجرد يستحيل التفكير فيه دون استخدام ما نعرفه عن الأمور المادية، وهنا ياتي دور الاستعارة، حيث ننقل ما نعرف من الظواهر المادية لنشكل ما لا نعرف من الظواهر غير المادية والتجريدية. 2. هذا بالتالى يدل على أن الاستعارة لا تقوم على التشبيه وإنما على التشكيل، ففي الامثلة السابقة لا يوجد في بنية التفكير والأفكار ما يشبه عملية الإبصار والادراك البصري، أي أن نظرية التشابه تسقط هنا، في حين ان هذا يدل على أننا نشكل تصورا وفهما معينا عن ظاهرة التفكير ونشكل بنية هذا التصور من خلال ظاهرة البصر المادية. 3. إن الاستعارة بهذا الفهم ليست حكرا على الأدب وإنما هي من الأمور التي نحيا بها جميعا، فجانب كبير من تصوراتنا وتفكيرنا غير الواعى حول الظواهر غير المادية تحكمه استعارات تصورية، لا نلاحظها عادة، لكنها تحكمنا دون أن ندري مثل الاستعارات التالية: الحدة حركة من مكان لآخر كقولنا "هذه خطوة مهمة في حياتك"، "أمامك طريق شاق وطويل"، "لا يمكنك ان تعود إلى ما كنت عليه في السابق" الجدال معركة كقولنا "أن حجته ضعيفة"، "هاجم فلانا فلانا"، "ان افكاره سهلة لا يصعب القضاء عليها" التحلي بالأخلاق الحسنة وجود في مكان عال مثلما هو في التعبير "أخلاق فلان عالية" أو "سامية"، "انه شخص وضيع"، "انه شخص منحط"، "قاده أصحاب السوء إلى الدرك الأسفل" الزمن حركة كقولنا "جاء يوم الامتحان"، "مضى زمان الصبا إلى غير رجعة"، "اشعر أن الزمن لا يتحرك أبدا هذه الأمثلة تدل على أن كثيرا من التعبيرات التي لا نتوقف عندها عادة نشير إلى استعارات مفهومية تحكم جانبا كبيرا من تفكيرنا غير الواعي، وتدل أيضا أن الاستعارة أمر يشترك فيه جميع البشر. ولكن إذا كان هذا هو شأن الاستعارة، فلماذا يتوقف الناس عادة أمام الاستعارات الأدبية الخلاقة و لا يتوقفون عند الاستعارات التي يستخدمها عامة الناس. يرد لاكوف وجونسون على هذا السؤال بقولهما أن الشعراء يستخدمون نفس الاستعارات التي يستخدمها غيرهم ولكن إبداعهم يكمن في روية جانب من نفس الاستعارة التصورية لا يستخدمه عامة الناس، ولو طبقنا هذه الفكرة لوجدنا أن قول سيف الرحبي "الصباح أرخى قلوعه" ليس إلا تعبيرا جديدا عن استعارة ذهنية عامة هي الزمن حركة من موقع لآخر التي تحكم جانبا كبيرا من رويتنا للزمن ونتجلى في كثير من التعابير الشائعة مثل "جاء عام ومضى عام وبقى فلان على حاله" حيث أن العام و هو فترة زمنية يعتبر أمرا متحركا يجىء إلى الإنسان ثم يمضي عنه، اما إبداع سيف الرحبي فيكمن في انه استخدم نفس الاستعارة التصورية بشكل جديد وأضاء جانبا جديدا لا يستخدمه العامة من الناس هو تعامله مع الصباح باعتباره سفينة ترخى قلوعها، مع بقاء الاستعارة التصورية ثابتة. أثار كتاب الاستعارات التي نحيا بها ثورة في روية الاستعارة ومناهج دراستها، وكما هو حال كل جديد فقد رفضه وانتقده المتمسكون بالرؤى التقليدية للاستعارة (نظريات التشبيه والتفاعل)، حتى إن البعض اعتبر لاكوف وجونسون "اعداء متحفين تحت قناع الأصدقاء حيث يقول فوجلينi مثلا: إن لاكوف وجونسون يتقاسمان الاجحافات الفكرية ضد الاستعارة - الاستعارة الحقيقة - حيث انهما مولعان بعزوها إلى أشياء أخرى، وأظن انه من الجدير أن نشدد على هذه النقاط حيث انه من المهم أن نكشف الأعداء المتخفين تحت قناع الأصدقاء (Fogelin, 1988, p.86) غير انه رغم الانتقادات فإن تطبيقات هذه النظرية في مجالات حياتية شتى كالسياسة والاقتصاد وغيرهما أوضحت أن جانبا كبيرا من التفكير استعاري في جوهره، وان الاستعارة تحكمنا دون أن ندري في شتى مظاهر حياتنا. غير أن النظرية تلقته دعما قويا أخر بكتابين ألفهما كل من لاكوف وجونسون في عام 1981، فقد اصدر لاكوف كتابه نساء ونار وأشياء خطرة: ما تكشفه الفئات (أو التصنيفات) حول العقل iiفيما أصدر جونسون كتابا بعنوان الجسد قي العقل: الأسس الجسدية للدلالة، والتخيل والتفكير العقليiii فيما بدا وكأنه تقسيم للأدوار في دعم النظرية الاساسية. فكتاب نساء ونار وأشياء خطرة ركز على جانب واحد من مظاهر الذهن وهي قضية التصنيفات أو الفئات، ولن نتعرض بالتفصيل لهذا الكتاب حيث انه يركز في أغلبه على تجارب تطبيقية تؤكد أطروحة الفلسفة التجربية مما لا يناسب سياق مجلة شفافية عامة كمجلة نزوى. إلا أننا سنقتبس من هذا الكتاب الفترتين التاليتين اللتين يوضح فيهما لاكوف لب الفلسفة التجربة واختلافها عن الفلسفة الموضوعية السائدة: إن النظرة التجربية مختلفة: إنها تحاول وصف الدلالة على أساس طبيعة وتجربة الأعضاء التي تقوم بالتفكير، ليس طبيعة الأفراد وتجربتهم فقط بل طبيعة وتجربة الأنواع species والمجتمعات. "التجربية" لا تفهم في معناها الضيق الذي يشير إلى الأشياء "التي حدث وان وقعت" لفرد من الأفراد، بل إن التجربة تفسر في معناها الواسع: المجموع الكلي للتجربة الانسانية وكل ما يلعب دورا فيها- كطبيعة أجسادنا، وقدراتنا التي ورثناها وراثيا، وصيغ فعلنا المادي في العالم، وتنظيمنا الاجتماعي، وهلم جرا. وبتلخيص فإن هذه النظرة التجربية تعتبر جوهريا كثير مما يعتبر غير مهم في التفسير الموضوعي. إن النظرة التجربية للمعني، في خطوطها الواسعة، تتعارض إذا مع النظرية الموضوعية. ففي حين إن الفلسفة الموضوعية تعرف الدلالة على نحو منفصل عن طبيعة الأشخاص المفكرين وتجربتهم، فإن الواقعية التجربية تفسر المعنى على أساس التجسد. أي على أساس مجموع قدراتنا البيولوجية وتجاربنا المادية والاجتماعية باعتبارنا فاعلين في بيئتنا. (266-267) أما كتاب الجسد في العقل فقد ركز على جانب اخر من أهم جوانب الفلسفية التجريبية، وهو الدور المحوري للجسد في تشكيل الذهن. وفيما انصبت معالجة الاستعارات التى نحيا بها للاستعارة على أساس تشكيل المجالات الذهنية من خلال التعامل معها وكأنها ظواهر مادية من خلال نقل بنية الظواهر المادية إلى الظواهر المجردة، فإن الجسد في العقل قد قام باستكشاف جوانب أخرى من جوانب محورية أو، الجسد والمادة تمثلت في دور image schemata أو ما يمكن ترجمته "مخططات الصورة" ودورها في عملية الاستعارات التصورية، و هي ما يعرفه جونسون كما يلى: مخطط الصورة هو نمط ديناميكي متكرر في تفاعلات الادراكية وبرامج حركتنا يخلق لتجربتنا تماسكا وبنية. فمخطط العمودية مثلا ينشأ من سعينا إلى أعمال اتجاهية فوق -تحت في انتقاء البنى الدالة في تجربتنا. ونلاحظ بنية العمودية هذه على نحو متكرر في الآلاف من مدركاتنا وانشطتنا التي نعايشها كل يوم، كإدراك شجرة، أو إدراكنا الشعوري بأننا واقفون، أو من خلال الصعود على سلم، أو من خط تشكيل صورة ذهنية لسارية العلم، أو قياس طول طفل أو من خلال تجربة ارتفاع مستوى الماء في حوض الاستحمام. إن مخطط العمودية هو البنية التجريدية لهذه التجارب والصور والمدركات العمودية. إن إحدى الأفكار المركزية في هذا الكتاب هو إن البنى المتخيلة القائمة على التجربة من هذا النوع من مخططات الصورة هو جزء لا يتجزأ من الدلالة والعقلانية. (Preface, p.xiv) يجادل كتاب الجسد في العقل بأن تشكيل الدلالات والمعاني وعملية التخيل إضافة إلى عملية التفكير العقلي تقوم كلها على عمليات استعارية تقوم فيها مخططات الصور بدور المجال المصدر. حيث ينتقد جونسون النظريات التقليدية للدلالة) انظرpreface. p.xxii) التي يمكن إجمال اراءها الجوهرية فيما يلي: 1. إن المعنى هو علاقة تجريدية بين رموز معينة كالكلمات أو التصورات الذهنية وبين واقع مادي محسوس، حيث لا يوجد للرموز معنى سواء بارتباطها بأمور مادية كالأشياء المادية وصفاتها والعلاقات فيما بينها. 2. إن المفاهيم هي تمثيلات ذهنية مجردة يتم استخدامها لتحديد الظواهر المادية التي تشير اليها أو سماتها أو علاقاتها، فمفهوم "الكرسي" يشير إلى كل الكراسي الموجودة. 3. إن المفاهيم "غير متجسدة" حيث إنها لا ترتبط بتجربة مادية معينة فيما أن الصور الذهنية قد ترتبط بتجربة مادية، فمفهوم الكرسي مثلا مفهوم عالي التجريد فيما أن صورة الكرسي الذهنية قد تكون مرتبطة بتجربة شخصية. 4. إن وظيفة نظرية الدلالة هي القدرة على شرح قابلية الرموز للدلالة، وذلك عن طريق توضيح الظروف التي تكون فيها تلك الرموز "صحيحة" من خلال ارتباطها بواقع معين. 5. إن أي تحليل للدلالة لا بد من أن يقود أساسا على مفاهيم واقعية وليست مجازية، فالمفاهيم لا يمكن أن تكون مجازية أبدا، فالمفهوم لا بد أن يشير إلى ظاهرة مادية يمكن استكشافها فيما أن المجاز والاستعارة لا يمكن مقارنتهما بواقع محدد يمكن به التثبت من صحتها، فقولنا إن "أرخى العمال قلوع السفينة" يشير إلى دلالة يمكن مقارنتها بالواقع المادي فيما أن استعارة سيف الرحبي "الصباح أرخي قلوعه" لا يمكن مقارنتها بواقع حقيقي، وهذا ما أدى إلى أن النظريات المادية تجعل للاستعارة دورا هامشيا في تشكيل المفاهيم. أما عن التفكير العقلي فالنظرية الموضوعية تفرم على الأسس التالية: 1. إن التفكير العقلي هو معالجة تحكمها قوانين معينة للارتباطات بين مجموعة معينة من الرموز. بمعنى أن ثمة قوانين منطقية تتحكم في عملية معالجة كيفية ترابط الرموز بعضها ببعض في عملية التفكير العقلي. 2. إن لب عملية التفكر العقلي هو المنطق الشكلاني، وكما يقول جونسون: يمكن الربط بين المفاهيم لتشكيل أفكار مختلفة الأنواع، وهناك عدد محدد من "الروابط المنطقية" (مثل حروف العطف "أو" "إذا كان – فإن"... الخ) التي تعين العلاقات الممكنة سواء كان فيما بين المفاهيم (مثلما هو الحال في "الأحمر والأزرق "الأحمر أو الأزرق... الخ) آو بين الأفكار (مثلما في "السماء تمطر و الجو بارد"، "إما أن تكون السماء تمطر أو أنها لا تمطر (xxiv).. " 3. إن التفكير العقلاني لا علاقة له بالجسد والمادة، حيث انه يحتوى على علاقات منطقية خالصة التجريد وعمليات مستقلة قائمة بذاتها في ذهن الشخص المفكر ترتبط به كشخص. وهنا فإن بعض ممثلي النظريات الموضوعية قد تحدثوا عن الاستعارة باعتبارها ظاهرة ذهنية خلاقة غير انهم نظروا اليها من خلال علم النفس، ولم يربطوها بالعلاقات المنطقية و التفكير العقلاني. 4. ومثلما هو في نظرتهم للدلالة، فإن حملة هذه النظريات قد اعتقدوا بوجود التفكير المتعالي الذي يمكن لكل البشر أن يصلوا اليه، ذلك التفكير غير المرتبط بأي ظاهرة أو تطور تاريخي. وهو ما يشير إلى ايمانهم بحقيقة ثابتة أو جوهر غير مرتبط بالإنسان وسياقه التاريخي. كل هذه المبادئ الأساسية لنظرة النظريات التقليدية للدلالة وللتفكير المنطقي قد ترسخت بفعل بقائها تاريخيا لقرون عديدة إلى أن أصبحت عند البعض بمنزلة الحقائق التي لا ياتيها الباطل كما أشرنا سابقا، وهو ما حاول جونسون التشكيك فيه من خلال كشف الدور المركزي الذي تقوم به الظواهر غير-الخبرية nonpropositional المجاز فيما. يحدد جونسون هدف نظريته في "إعادة الجسد إلى الذهن" (المقدمة) xxxvi ويوضح مفهومه للجسد في الأبعاد غير الخبرية والتجريبية والاستعارية للمعني والدلالة". ويرى أن الجسد أساسي في تحديد هويتنا البشرية وحقيقة أن تفكيرنا البشري يظل مرتبطا بوجودنا المادي وتجاربنا وعلاقتنا بالواقع المادي حولنا، وليس تفكيرا مجردا غير مرتبط بالمادة بشكل من الأشكال. وهذا بالطبع يتناقض مع أساس من أسس النظريات الأخرى التي رأت أن التفكير المجرد هو الذي يميز الإنسان عن بقية اشكل الكائنات الحية، وان هذا التفكير متعال لا يرتبط بالمادة بأي وجه من الوجوه. ويقوم التحدي الذي يطرحه جونسون كما أشرنا على أساس مفهوم "مخططات الصورة" التي يمكن تعريفها ببساطة انها بنى متكررة في الفهم الإنساني لظواهر حياتية شتى وسابقة على أي عملية تفكير عقلي. من أمثلة هذه المخططات مخطط الحركة، القوة، الاحتواء، العلو والانخفاض. قد يبدو مفهوم مخططات الصورة معقدا لكنه ليس كذلك في واقع الأمر، فلو أخذنا مخطط الحركة لوجدناه يقوم أساسا على تجربتنا المادية بحركة جسدنا من موقع لأخر، وحركة الأشياء المادية الأخرى كالسيارة أو القارب، أو حركة القلم من اليمين إلى اليسار فيما أن مخطط القوة يوجد في كثير من ظواهر حياتنا المادية كقوة الريح أو قوة دفع الباب، أو قوة المتصارعين.. الخ. إن مفهوم مخططات الصورة إذن مفهوم متعال على الظواهر المادية ذاتها لكنه يحكم رؤيتنا لها. إن هذه المخططات تتسم بأنها سابقة للمفاهيم، بمعنى أن وجودها يسبق وجود المفاهيم التي تقوم عليها من خلال الاستعارة. يناقش جونسون في كتابه اكثر من مخطط من مخططات الصورة، لكننا، لتوضيح النظرية التجربية، سنناقش هنا أحدها فقط وهو مخطط الاحتواء بنية بسيطة جدا كما يوضحها الشكل التالي:
فالحاوي، الذي قد يكون بيتا أو سيارة أو علبة كبريت أو كوب ماء أو حاوية في سفينة، يتكون من بنية بسيطة كما يلي 1)داخل 2)حدود 3)خارج إلا إن البنية البسيطة نتبعها أيضا بعض النتائج المرتبطة بها، فأن تكون داخل شيء يعني انك محمي أو مقاوم لقوى الخارج، لكن الاحتواء أيضا يحكم القوى الموجودة فيه وهو ما يعطيها بعض الثبات الجغرافي. ولاحتواء أيضا نتائج منطقية، فإن كنت في الداخل يعني انك لا يمكن إن تكون في الخارج، واذا كان س موجود في ص مثلا فإن كل ما هو في س موجود في ص، فإن قلت إن محفظة نقودك تحتوي على خمسين ريالا عمانيا، وانك وضعت المحفظة في حقيبة يدك، فإن النقود موجودة أيضا داخل حقيبة اليد. لنرى نتيجة هذه البنية البسيطة ونتائجها المنطقية في تشكيلنا للدلالة وفى تفكيرنا العقلي، ولنركز على جانب واحد فقط من هذه البنية وهو جانب الخروج كما يوضحه السهم في الشكل التالي:
في الظواهر المادية يمكننا إن نقول: 1. احمد خرج من سيارته 2. أخرج الاسد أنيابه 3. خرج الناس من القلعة في الأمثلة السابقة نرى "الخروج" في تجليه المادي، حيث نجد ظاهرة مادية حاوية (السيارة، فم الأسد، القلعة) وظاهرة تخرج من داخل الحاوية إلى خارجها (أحمد، أنياب الأسد، الناس). ولكن لننظر إلي الأمثلة التالية: 1)فلان لا يخرج الصدقة 2)خرج الوالي على الخليفة 3)هذا الفعل يعتبر خروجا عن الدين 4) لا تخرج عن الموضوع. لا تتحدث هذه الأمثلة عن ظواهر مادية كالسيارة أو فم الأسد أو غيره، بل عن ظواهر غير مادية (كالصدقة، والتمرد، والدين ومواضيع النقاش) وهنا يكمن دور الاستعارة حيث يتم بها نقل معرفتنا بالاحتواء لتشكيل مفاهيم مجردة حول أمور اقتصادية كالصدقة والإمكانيات المالية، وسياسية كالتمرد السياسي، وروحية كالدين، وعامة مثل النقاشات الفكرية، وهو ما يرد على النظريات التقليدية التي ترى أن هذه الأمور أو الحديث حولها نظري محض لا علاقة له بالتجربة المادية للانسان. إن الأمر الأكثر خطورة هنا هو أن مخطط الاحتواء المادي لا يتحكم في الأمور غير المجردة على مستوى البنية فقط (خروج الشيء من شىء أخر يحتويه) ولكن على مستوى منطق الاحتواء نفسه، فكون س داخل ص يعني أنها لا يمكن أن تكون في نفس الوقت خارج ص ولكن إن كانت ص فإنها ليست داخله، هذا المنطق البسيط ينقل لتشكيل المفهوم المجرد، فالدين يصبح حاوية قد يكون الإنسان داخله أو خارجه، وخطورة هذا التفسير، بالنسبة للنظريات التقليدية، تكمن في أن ما تعود الناس على كونه أمرا مجردا غير مادي كمفهوم الدين هو في حقيقته تحت سيطرة مفهوم مادي هو مفهوم الاحتواء الذي شكل مفهوم الدين من خطي النقل الاستعاري، وسيطر على آليته والتفكير فيه من خلال نقل الإمكانيات المنطقية لبنية الاحتواء. النظرية إلى نهاياتها المنطقية وتجسد الفلسفات الغربية في مطلع هذا العام 1999 أصدر كل من لاكوف وجونسون كتابهما المشترك الثاني الفلسفة في الجسد: العقل المتجسد وتحديه للفلسفة الغربية iv. هذا الكتاب وبتلخيص شديد يأخذ النظرية التي طرحها كتاب الاستعارات التي نحيا بها حول الاستعارة وما تبعها من تطويرات إلى نهاياتها المنطقية، وأعني بالنهايات المنطقية محاولة تقصي وجود الجسد والمادة في الفلسفة عموما وفي الفلسفات التي تعلن لا ماديتها. حيث يتكون الكتاب من أربعة أقسام،يقوم القسم الأول منها المكون من ثمانية فصول بتقديم للفلسفة التجربية ودور الاستعارة في تشكيل الظواهر العقلية، بينما يقوم القسم الثاني (خمسة فصول) بتحليل بعض الأفكار الفلسفية الأساسية من منظور علوم الذهن، فيما يقوم الفصل الثالث (عشرة فصول) الذي يمثل لب الكتاب بمناقشة الفلسفة الغربية من منظور ما تطرحه النظرية التجربية القانعة على دور الجسد المجازي، أما القسم الرابع والأخير فيطرح نتائج الفلسفة المتجسدة ويحاول الإجابة على السؤال البسيط: كيف يحكم الجسد والمادة عموما العقل وعملياته الفلسفية ؟ لن نسعى هنا إلى عرض شامل لمحتويات الكتاب لكننا سنعرض لأهم أفكار الكتاب من خلال عرض مفصل لبعض فصوله. يقدم القسم الأول من الكتاب ملخصا لوضع البحث العلمي في الدراسات الذهنية التي يمكن تلخيص نتائجها فيما يلي: 1) إن الذهن متجسد أصلا 2) إن الفكر يتم في معظمه على مستوى اللاوعي 3) إن المفاهيم المجردة ذا طبيعة استعارية إلى حد بعيد ويرى المؤلفان انه لكي يمكن لأي إنسان أن يعيد فتح القضايا الفلسفية فإنه يتوجب أن يكون لديه منهج للبحث وان يستخدم هذا المنهج لفهم المفاهيم الفلسفية الأساسية إضافة إلى انه يتوجب عليه إن يطبق هذا المنهج على الفلسفات التي سبقته لتفسير وجودها وكيفية تشابهها واختلافها. لن نتوقف هنا أمام المقدمات النظرية التي يطرحها المؤلفان حيث أنها بشكل أو أخر هي نفسها التي طرحاها في كتابيهما الصادرين في عام 1987 والتي عرضنا لأهم أطروحتها أعلاه، ولكننا سنتوقف أمام معالجتهما لبعض القضايا الفلسفية ولتجسد الفلسفات الغربية. الاستعارة وتشكيل مفهوم الزمن فقد ناقش المؤلفان قضايا أساسية في التفكير الفلسفي كالزمن والسبب والنتيجة والذهن والذات والأخلاق. وهنا سنركز على ما تحليلهما حول مسألة الزمن، ونتائج ذلك التحليل التي "تشير أسئلة صعبة ليس حول فلسفة الزمن فحسب بل حول البحث الفلسفي برمته" (137، ترجمتي). فيرى المؤلفان انه لا يوجد ثمة مفهوم متكامل قائم بذاته للزمن، وان كل ما نعرفه عن الزمن وتفكير الإنسان الفلسفي حوله يقوم على رؤيته استعاريا من خطر ظواهر مادية كالحركة والمكان والأحداث. فكم يستغرق حدث من الأحداث، ولنقل صلاة العيد، من الوقت؟ يرى المؤلفان أننا، كي نجيب على مثل هذا السؤال، نقوم بمقارنة بداية الحدث ونهايته بأوضاع وسيلة نستخدمها لقياس الزمن، كالساعة، وهي وسائل تعتمد نفسها على أحداث تتكرر على نحو منتظم، بما يحدد الفترة ذاتها من الزمن. فقولنا إن صلاة العيد استمرت عشرين دقيقة يعني أننا نقارن حدث الصلاة بحدث تكرار حركة عقرب الساعة. لكننا هل لاحظنا الزمن ذاته؟ لا فكل ما نستطيع فعله هو مقارنة أحداث بأحداث أخرى (حدث العيد وحدث حركة الساعة) فالسمات الأساسية للزمن تقوم أساسا على مفهوم الحدث كما يلي: - الزمن اتجاهي (أي يمضي باتجاه واحد) ويتعذر عكسه لأن الأحداث اتجاهية ولا يمكن عكسها (بمعنى أن الشيء لو حدث فك يمكن إلغاء حدوثه) - الزمن مستمر لاننا نعرف استمرارية الأحداث - الزمن قابل للتقسيم إلى أجزاء لان الأحداث لها بداية ونهاية - يمكن قياس الزمن لأنه يمكن حساب تكرار الأحداث (138) وهكذا فإن الزمن ليس ظاهرة قائمة بذاتها بل انه يعتمد في أكثر سماته جوهرية على معرفتنا بالأحداث ذات البداية والنهاية وتكرارها. ولكن إذا كان هذا الزمن في جوهره، فإن جزءا كبيرا من حديثنا عن الزمن يقوم أساسا على الاستعارات القائمة على معرفتنا بالمكان والحركة من موقع لأخر كالاستعارات التالية: الزمن المكاني تعتبر معرفتنا المالية بالمكان والحركة فيه جزءا أساسيا من مفهومنا للزمن. فتشكيل الزمن إلى ماض وحاضر ومستقبل يقوم على رؤيته من خطر موقع مكاني لشخص معين (الخلف، نقطة الوقوف، الأمام). ففي العربية يمكننا إن نقول التعبيرات التالية الدالة على الزمن المكاني: - أمامنا مصاعب كبيرة (أي سنواجه مشاكل في مستقبلنا) - العرب يجرهم تاريخهم للوراء - في هذه اللحظة لا أستطيع إن اكشف ما في قلبي الزمن المتحرك حسب هذه الاستعارة يوجد شخص ثابت في موقع محدد موجه بصره باتجاه معين، فيما أن الفترات الزمنية تمر عليه من الأمام إلى الخلف. وهذه الاستعارة تحكم جانبا كبيرا من رؤية الإنسان للزمن. فنجد لدينا تعبيرات مثل - مر عان وأتى عام آخر والوضع لم يتغير - سيأتي زمان عليكم تتمنوا فيه السلم ولا تجدره - لا بد من إعداد العدة فيوم الامتحان قادم لا محالة - يوم الاثنين الماضي حدث أمر عظيم،- وفي يوم الاثنين القادم سترون العجب إن القضية ليست قضية اللغة نفسها هنا حيث إن التعبيرات اللغوية التي نستخدمها للتعبير عن الزمن ليست إلا انعكاس للعمليات التي تحدث في الذهن والتي تمكنا من محاولة فهم بعض مظاهر الزمن من خلال ما نعرفه عن المكان وعن حركة الأشياء التي نقيسها عن طريق مقارنتها بجسم ثابت، وهو دليل اخو على تحكم المادة ومنطقها (المكان وحركة الأشياء) بقضية من أهم القضايا الفلسفية كقضية الزمن. المراقب المتحرك في هذه الاستعارة لا نجد إن الزمن هو الذي يتحرك لكن الإنسان نفسه يتحرك في طريق الزمن. وهنا فإن فترات الزمن تكون مواقع على طريق بينما تكون حركة الإنسان في الطريق هي "حركة" الزمن وتكون المسافة التي تحركها المراقب هي المدة الزمنية التي "مرت". وهنا نجد تعبيرات مثل: - دخلنا عام 1999 والحال نفس الحال - حدثت أشياء كثيرة طال فترة غيابك - إن غدا لناظره قريب وهنا أيضا فإننا نستخدم في وصف الزمن ما نستخدمه أصلا في وصف الحركة (فترة: طويلة، قصيرة، ممتدة، من عام....؟ إلى عام....؟ نقترب من عام.... الخ) إن الاستعارات السابقة لتصور الزمن و التحدث عنه هي أمر تلقائي لا يستوقف معظم الناس، وحيث إن استخدامنا لهذه الاستعارات أمر تلقائي فقد غدت في مرتبة الحقائق التي لا يطالها الشك، غير إن هذه "الحقائق" المألوفة ليست حقائق في واقع الحال حيث أنها ليست إلا مفاهيم تقوم مجازيا على معرفتنا بالأحداث وبالمكان وبالحركة، وكما يقول لاكوف وجونسون (ص 153) فإن الاستعارات لا تشكل فقط مفهومنا للعلاقة بين الأحداث والزمن بل مفهومنا للزمن ذاته. يتساءل لاكوف وجونسون أيضا عن الأمور الأكثر أساسية في فهم الزمن، حيث انه إذا كانت الأحداث تقع داخل الزمن فإن الزمن بهذا سابق عليها، إلا إن هذا الفهم خاطئ لأنه يقوم على مجاز اخر هو مجاز الاحتواء الذي يقوم على إن الزمن حاوي وان الأحداث أشياء محتواة داخل حدود الزمن. كذلك فإنهما يشيران إلى إن مثل هذه القضايا، أي تلك المتعلقة بدور المجاز في تشكيل المفاهيم الفلسفية، مهمة جدا حيث إن جانبا كبيرا من منظومة المفاهيم لدى الإنسان استعاري الطابع و غض النظر عن هذا الجانب يؤدي بالفلسفة الى إن تضل طريقها. وهنا يحث خطآن أولهما إن الفيلسوف يفشل في إدراك الجانب الاستعاري في مفهوم الزمن وهو ما يؤدي به إلى إن يعتبر التعبيرات الاستعارية وكأنها حقيقية، وهو ما يؤدي إلى خطأ اخر هو انه سيعتبر الواقع الصادق الخارجي وكأنه مشكل استعاريا هو الاخر. ومثل ذلك ما قاله أحد الفلاسفة من إن الزمن يمضي بشكل خطي، و انك لو رميت سهما من مكان لاخر، فإنه في كل لحظة زمنية يكون في نقطة معينة من نقاط المكان، ويتساءل هذا الفيلسوف: أين الحركة إذا إن كان السهم في كل لحظة زمنية يكون في نقطة مكانية؟ إن الخطأ الذي وقع فيه هذا الفيلسوف كما يقول لاكوف وجونسون هو انه اعتبر ما هو استعاري الطابع (إن الزمن يتحرك) حقيقيا، وحيث إن السهم يتحرك فإن ذلك أدى به إلى إن يعتبر إن حركة السهم تتماشى مع حركة الزمن، وهو ما أوقعه في الخطأ بأن السهم لا يتحرك أبدا. يتحدث المؤلفان أيضا عن بعض الاستعارات الأخرى المستخدمة في تصور الزمن مثل إن الزمن مال حيث نتحدث مثلا عن ضرورة (الحفاظ على الوقت وعدد تضييعه). وغيرها من الاستعارات، ثم يتساءلان عن إمكانية التفكير في الزمن أو الحديث عنه بدون استخدام الاستعارة، ويريان إن ذلك أمر محال وهو ما يعني إن الاستعارات تشكل مفهوم الزمن، بمعنى إن الاستعارة هنا لا تقارن بين الزمن وأمر أخر بل أنها تستخدم المجالات الحياتية الاخرى كالحركة والأحداث في تكوين مفهوم الزمن. غير انهما يحذران من خلط المجازي بالحقيقي حيث يؤدي إلى أفكار تافهة، حيث أن استعارة الزمن المتحرك والشخص المتحرك في الزمن لو اعتبرت حقيقية لاعتبرنا أن المستقبل موجود حاليا وان الماضي هو الأخر موجود وان السهم لا يتحرك... الخ. إن لب كتاب لاكوف وجونسون يتمثل في إعادة قراءة الفلسفة الغربية من خلال مكتشفات علم الذهن ونظرية الاستعارة التي طرحاها فيقولان: إن فهم النظريات الفلسفية وشرحها وتقييمها ليس إلا تمهيد للمهمة الأساسية في تشكيل توجه فلسفي يمكن أن يعيننا في التعامل مع المشاكل الحقيقية والملحة التي تواجهنا يوما بيوم في حياتنا على المستويات الشخصية والاجتماعية والكونية. إن ما يريده البشر هو فهم فلسفي يقدم قيادة واقعية لحياتهم. إننا كائنات حية اجتماعية أخلاقية سياسية اقتصادية دينية وينبغي على فلسفتنا أن تعيننا في كل هذه الجوانب وفي اكثر منها. ص 342 (ترجمتي) وهذا يعني انهما ينتقدان التفكير الفلسفي في مواضيع ميتا فيزيقية لا ترتبط ارتباط مباشرا بحياة البشر وما يمس حياتهم من عوامل حياتية، وان الفلسفة ينبغي أن تتحمل مسئولية الارتباط بحياة الناس ومشاكلهم الحقيقية. وهنا فإنه لن يمكنا تقديم عرض كامل لتحليلهما للفلسفة الغربية بل سنركز على مثال واحد لهذا التحليل وهو ما قالاه (في الفصل التاسع عشر) عن فلسفة ديكارت كنموذج لسيطرة الاستعارة على التفكير الفلسفي. فمن الأفكار الأساسية في فلسفة ديكارت ما يلي: بإمكان العقل أن يعرف أفكاره على نحو يقيني لا يخامره الشك الفكر يتم على مستوى الوعي يمكن للعقل أن يعرف البنية التي يتكون منها أن تكوين معرفة يقينية عن العقل لا يستلزم بحثا تجريبيا أن العقل ليس أمرا ماديا، فهو يتكون من جوهر عقلي فيما أن يتكون الجسم من جوهر مادي إن الخيال والعاطفة والتي هي أمور الجسد وتخرج من إطار العقل ليسا جزءا من جوهر الطبيعة الإنسانية بعض أفكارنا تمثل العالم الخارجي ويكمن اصلها في إدراك الأشياء المادية فيما أن بقية الأفكار متأصلة ولا علاقة بها بالمادة ولا تمثل أي شيء مادي يتساءل لاكوف وجونسون في البداية عما يجعل هذه الأفكار مترابطة ومقنعة لدى الكثيرين، فيجادلا بأن ترابط هذه الأفكار وقابليتها للاقناع مرده هو أن ديكارت قد جمع عدد من "الاستعارات المألوفة حول الذهن وثم تابع متتبعاتها (392) وانه بدون هذه الاستعارات فإن حجة ديكارت تسقط الجانب الميتافيزيقي من نظريته. فقد قام منهج ديكارت على أساس المعرفة اليقينية التي لا يطالها أي شك من خلال رفض كل معرفة احتمالية والوثوق بما هو معروف معرفة تامة وما هو غير قابل للشك. وقد قامت رؤية ديكارت للعقل باعتباره مسرحا فكريا توجد فيه مواد استعارية (هي الأفكار) يضيئها نور داخلي (نور العقل الطبيعي) ويراقبها مشاهد استعاري (هو قدرتنا على الفهم). ويسمى ديكارت الرؤية العقلية حدسا وهو ما يمكنه من رؤية الأفكار واضحة ويميز فيما بينها. ويتساءل لاكوف وجونسون عما يجعل ديكارت يعتقد بأن العقل يستطيع أن يعرف أي شيء، ويجادلان بأن تفسير ديكارت يستند على مجموعة من الاستعارات "المنسوجة ببعضها على نحو محكم" (393) وان أهم الاستعارات وأكثرها أساسية في نظرية ديكارت هي المعرفة رؤية والتي تنقل مجال رؤية الأشياء المادية عن طريق العين إلى مجال المعرفة وفهم الأشياء كما يلي:
إن استعارة المعرفة الرؤية تعتبر من الاستعارات التقليدية المألوفة في مفهوم المعرفة العام كما أشرنا قبلا في شرحنا لها، حيث إننا نستخدم هذه الاستعارة على نحو مألوف فنقول مثلا "رؤية صائبة" ? "أرجو إيضاح فكرك" الخ. وهنا فإن كل ما قام به ديكارت هو انه اخذ هذه الاستعاره على أساس أنها حقيقة فلسفية، فأعتقد أن أهم مشاكل المعرفة هو إمكانية أن يكون لدى الإنسان رؤية واضحة لا يشوبها أي غموض، وهنا فإن مشكلة المنهج الفلسفي تغدو مشكلة كيفية رؤية الأفكار رؤية واضحة وتقديمها للعقل كي يتفحصها وان يميز العلاقات الموجودة بين الأفكار المختلفة. إضافة إلى هذه الاستعارة الأساسية فإن ديكارت استغل استعارات أخرى كاستعارة العقل حاوي للأفكار وان قدرات العقل هي أشخاص يقومون بمهام عقلية مختلفة، حيث يربط ديكارت فيما بين هذه الاستعارات لينتج منظومة استعارية معقدة تميز مفهومه للحدس او كما يقول لاكوف وجونسون. العقل، ذلك الشخص في المسرح الديكارتي القادر علي الفهم، يتم تصوره من خلال استعارة (الفهم رؤية) باعتباره شخصا قادرا على الرؤية. كذلك فإننا إذا أضفنا استعارة (الأفكار أشياء) إلي استعارة (العقل حاوي للأفكار) ينتج لدينا أمر مستلزما هو أن الأفكار هي أشياء موجودة في العقل الذي يمكن للتفكير العقلي إن يراه. إن من عواقب هذه الفكرة هو انه يمكن للانسان أن يصل إلى فكرة معينة إن كانت هذه الفكرة مضاءة على نحو كاف، و هو ما انعكس على فلسفة ديكارت التي اعتقدت انه يمكن للمفكر أن يصل إلى الفكرة كما هي في الحقيقة إن كانت هذه الفكرة موجودة في العقل ومضاءة بنور العقل الذي يميزها عما عداها. خلاصة القول إن دعوى ديكارت بانفصال العقل عن الجسد واختلافه الجوهري عنه هي دعوى غير حقيقية ففلسته حول العقل والأفكار تقوم اساسا على استعارات ترتبط بأمور جسدية محضة كالابصار والاحتواء وغيرها. ان استعراضنا لمسار الفلسفة التجربية، تلك الفلسفة التي ترتكز على التجربة الحقيقية للبشر وتقوم على مكتشفات علم الذهن التجريبي يمكن تلخيصه في أن الاستعارة ليست ظاهرة لغوية فحسب بل انها اصلا عملية تفاعل ذهنية بين مجالات مختلفة، وفي الغالب فإننا نتعامل مع المفاهيم والأفكار من خطي معرفتنا بالمجالات المادية. كذلك اوضحنا كيف أن منظومات الأفكار الفلسفية ليست خلوا من الجسد كما يبدو من اعتبارها "افكارا بل أنها متجسدة تجسدا لا يمكن الشك فيه بسبل شتى، أولها ان الأفكار تحدث في العقل الذي هو جزء من جسد الإنسان، وثانيها ان هذه الأفكار والمفاهيم تعتمد على مجازات تقوم على أساس التجربة المادية في بنيتها وفي منطقها. خاتمة: كيف نستفيد من النظرية التجربية في تطوير التفاعل الثقافي في عمان؟ حتى لا يكون ما طرحنا حولن النظرية التجربية وتجسد العقل مجرد حديث نظري عابر أرى أن على المشتغلين بالثقافة والفكر في عمان أن يتأملوا فيما يمكن أن يستفاد منه من هذه النظرية في تطوير التفاعل الثقافي في عمان، و أستطيع أن أشير إلى أربع نقاط فقط: 1. إن هذه النظرية، أي نظرية التجسد الفكري من خلال الاستعارة، يمكن الاستفادة منها في دراسة وتحليل منظومات الفكر العماني بشتى أشكاله الدينية والفكرية والسياسية، وهو ما سيؤدي فيما أرى إلى توضيح جوانب كانت غائبة حتى الآن حول سيادة التجسد في هذا الفكر، ودور هذا التجسد الاستعاري في نقل بنية المجالات المادية ومنطقها ورؤانا حولها في تشكيل منظومات المفاهيم الفكرية المختلفة. 2. ان الفلسفة التجربية القائمة على علم الذهن والعلوم التجريبية الأخرق تدعونا كمشتغلين في جوانب الفكر العماني المختلفة إلى تحمل المسؤولية تجاه القضايا الفكرية والفلسفية. هذه المسؤولية تعني أمورا كثيرة، أولها أن على المفكر أن يتعامل مع القضايا الملحة التي ترتبط بالحياة المعيشية للانسان العماني وان التفكير الفلسفي والعقلي عموما بأشكاله المختلفة، يجب أن ينطلق من الإنسان كما أشار لاكوف وجونسون في إحدى الاقتباسات أعلاه. 3. ان المسؤولية تعني أيضا إعادة النظر فيما هو موجود من النتاج الفكري بأشكاله المختلفة، فما ساد من غلو في تقصى قضايا فلسفية وكلامية اعتقد سابقا بأنها تجريدية ينبغي إعادة النظر اليه، وان ما ساد من إمكان العقل الخالص بألوانه المختلفة أن يحل هذه القضايا ويصغ ما هو ضدها يبدو الآن يقينية تدفعنا الفلسفة التجريبية ونظرية تجسد العقل إلى التشكيك فيها، فجل هذه القضايا تقوم على مجازات ذات أساس مادي محض وان ما طرح من نتائج فكرية، ليست في الواقع سوى مشبعات طبيعية لتفاعل استعارات مختلفة وروى شائعة لا تعكس بالضرورة واقعا يقينيا حقيقيا. 4. ان المسؤولية التي تطرحها الفلسفة التجربية تعني أيضا أن على المشتغلين بالمعرفة والفكر والنقد في عمان أن يحاولوا تفكيك أبعاد خطابهم الذهنية واللغوية، فما ساد مثلا في الساحة الثقافية من أن الاشتغال بالأدب هو وألم ليس إلا استعارة، وان كل توسع في هذا الموضوع ليس إلا تفصيل في مستتبعات استعارات مفهومية تحكم المفكرين والمشتغلين بالنقد الأدبي في عمان، دون وعي في أغلب الأحوال. ان الأخطر في هذا المجال هو ان المشتغلين بالأدب، أدباء ونقاد وقراء، يتعاملون مع مفهوم الأدب هذا وكأنه حقيقة، وما هو أخطر حقا هو ان هذه الاستعارة تصبح إحدى الاستعارات التي "يحيا بها" المشتغلون بالأدب دون أن يعوا أبعادها في المستوى الشخصي، حيث تصبح الأوهام "ألما" استعاريا مما يؤدي في نهاية المطاف إلى نتاج أدبي ونقدي لا يعكس تجربة إنسانية حقيقية، وعلى المستوى الاجتماعي حيث تعيش مجموعة الكتاب حياة سلبية تفقدهم الاتصال بالواقع المعيشي بجميع مظاهره، وهو، فيما أرى ما أدى إلى إبعاد ممثلي المؤسسة الثقافية عموما عن تفاعلات الواقع الحياتي العماني، وهذا ليس إلا انعكاسا لما قد تقود اليه استعارة لم يلتفت إليها أحد من مستخدميها. فيما يلي نقدم ترجمة لجانب كبير (الصفحات 551-561) من الفصل 29 من كتاب الفلسفة في الجسد لجورج لاكوف ومارك جونسون، وهو الفصل الذي يلخص فيه هذان المفكران نظرية الفلسفة التجريبية وتجسد الفكر من خلال أمثلة هي تصور الإنسان في الفلسفة الغربية والآثار الاجتماعية لاستخدام نظرية التطور التي قدمها دارون في المجال الاجتماعي من خلال الاستعارة. الفلسفة في الجسد: جورج لاكوف ومارك جونسون إننا كائنات حية فلسفية، فنحن الكائنات الحية الوحيدة المعروفة لدينا التي يمكنها أن تطرح أسئلة عن السبب الذي من اجله تحدث الأشياء بالوجه الذي تحدث فيه، بل وتحاول ان تقدم تفسيرات في هذا الشأن. ونحن الكائنات الحية الوحيدة التي تتأمل في معنى وجودها والتي تقلق قلقا مستديما عن الحب والجنس والعمل والموت والأخلاق، بل ويبدو إننا الكائنات الوحيدة التي تقدر على التفكير تفكيرا ناقدا في حياتها بما يؤدي إلى أن تغير من سلوك حياتها. وعلى هذا فالفلسفة ذات شأن بالنسبة لنا، في المقام الاول بسبب انها تعيننا على إعطاء معنى لحياتنا وان نعيش حياة افضل. ان الفلسفة الجديرة بالتقدير والاحترام هي تلك التي تهبنا بصرة عميقة فيما يتعلق بمن نحن وكيف نعيش عالمنا وكيف ينبغى لنا أن نعيش. وفي لب بحثنا عن المعنى تقع حاجتنا إلى معرفة أنفسنا- من نحن وكيف تعمل عقولنا وما هي الأشياء التي نقدر على تغييرها وتلك التي نفشل فيها، وما هو الصحيح والخاطئ. وهنا يلعب علم الزمن دورا حاسما في إعانة الفلسفة في إدراك أهميتها ونفعها، ويتم هذا من خلال مدنا بمعرفة عن أمور كالمفاهيم واللغة والتفكير العقلي والشعور. وحيث أن كل شيء نفكر فيه ونتحدث عنه يعمد على إعمال عقولنا المتجسدة فإن العلم الذهني هو أحد تلك المصادر العميقة لمعرفة الذات. وكان هذا هو الغاية التي قادت هذا الكتاب. الفلسفة المسؤولية مسؤولية تجربية السؤال بين جلي: هل ستختار المسؤولية التجربية ام الافتراضات الفلسفية المسبقة. ان معظم ما تعتقده عن الفلسفة وكثير مما تعتقد به حول الحياة سيعتمد على أجابتك على هذا السؤال. لقد دعونا إلى فلسفة مسؤولة مسؤولية تجربية - فلسفة تستفيد من الاشتباك النقدي المستديم مع أفضل علم تجريبي موجود. إننا ندعو إلى حوار بين الفلسفة وعلم الذهن. وفي الوضع المثالي فإن عليهما يتطورا بشكل مترابط وان يثري كل منهما الآخر على نحو متبادل. ان التبحر الفلسفي ضروري ان أردنا أن نحافظ على أمانة العلم، فالعلم لا يمكنه أن يحافظ على نقده الذاتي دور معرفة جادة بالفلسفة والفلسفات الأخرى. فعلى العلماء أن يدركوا كيف يمكن للافتراضات الفلسفية المسبقة أن تتحكم في نتائجهم العلمية، وهذا درس مهم ينبغي تعلمه من تاريخ الجيل الأول من علم الذهن، حيث رأينا كيف تدخلت الفلسفة التحليلية في التصور الأولى لطبيعة علم الذهن. وفي الجانب الأخر فإنه لا يمكن للفلسفة، إن أرادت أن تكون مسئولة، أن تعزل ببساطة نظريات العقل واللغة ومظاهر الحياة البشرية الأخرى دون أن تواجه وان تفهم بجدية الكتلة الكبيرة من منتج البحث العلمي المستمر ذي الارتباط بهذه النظريات، وإلا فلن تعدو الفلسفة كونها نوعا من سرد القصص وتلفيق الحكايات غير القائمة على حقائق التجسد الإنساني والذهن، وان سعينا إلى معرفة أنفسنا فإنه يتعين على الفلسفة أن تحافظ على حوار مع علوم الذهن. لماذا تكون المسؤولية التجربية مهمة في الفلسفة إن المسؤولية التجربية في الفلسفة هي أمر مهم لأنها تمكن من ايجاد فهم افضل للنفس، وتقدم لنا بصيرة اعمق تمكننا من النفاذ الى معرفة من نحن ومعنى أن يكون الإنسان إنسانا. وهنا فإن التحول من العقل غير المتجسد إلى العقل المتجسد إنما هو تحول درامي مثير، حيث يعطى الكتاب جانبا ليس إلا من طبيعة هذا التحرك الدرامي، وكي تعرف الدلالات الكاسحة لاستخدام العلم في الفلسفة لنناقش ثلاثة مواضيع أخيرة: ما هو الشخص، ما هو التطور، وما معنى أن تكون الظاهرة الروحية أمرا متجسدا. ما هو الإنسان بدأنا هذا الكتاب بادعاء أننا، باعتبارنا أفرادا ننتمي إلى ثقافتنا، قد ورثنا نظرات فلسفية خاطفة على نحو كبير حول ماهية الإنسان، وهذه ليست فقط أراء محترفي الفلسفة فحسب بل أنها أراء ذائعة كان لها أثرها في كل مجال من مجالات حياتنا من الأخلاق حتى السياسة، إلى الدين والطب والاقتصاد والتربية وهلم جراء وقد بلغت هذه الآراء من الذيوع حدا يجعل من الصعب علينا أن نلاحظ تأثيرها على حياتنا. وفي هذا الموضع من الكتاب يمكننا الآن أن نقدم تفسيرا مفصلا حول المفهوم الغربي التقليدي للانسان ونقدم أيضا ما نرى انه ينبغي أن يحل محله. ووضع هذين الرأيين في مواجهة الأخر يظهر أمرا مفاجئا، ذلك إننا سنرى إننا لسنا على النحو الذي اعتقدنا به أنفسنا، وان ما نفعله في الحقيقة ليس هو الشيء الذي اعتقدنا أنا كنا نفعله. اليك المقارنة بين هذين الرأيين، ويجدر حقا أن تتأمل كيف ستكون حياك إذا تغير فهمك لنفسك على نحو ما سترى. المفهوم الغربي التقليدي للإنسان: العقل غير المتجسد 0 العالم الموضوعي: لعالم بنية أصناف فريدة غير مرتبطة بعقول بني البشر وأجسادهم وبأدمغتهم. 0 العقل الكوني: ثمة عقل كوني يميز البنية العقلانية للعالم. ويستخدم هذا العقل مفاهيم كونية تميز الأصناف الموضوعية في العالم. وكل من المفاهيم والعقل لا يرتبطان بأذهان بني البشر وأجسادهم وأدمغتهم. 0 العقل البشري غير المتجسد: إن التفكير العقلي البشري هو قدرة العقل البشري على استخدام جزء من العقل الكوني،. ويمكن لعملية التفكير العقلي أن يقوم بها الدماغ البشري،0 إلا أن ما يحدد بنية هذه العملية هو العقل الكوني المستقل عن أجساد بني البشر وأدمغتهم. وبذا فإن التفكير العقلي البشري هو ظاهرة غير متجسدة. 0 المعرفة الموضوعية: يمكننا الحصول على معرفة بالعالم من خلال استخدام العقل الكوني والمفاهيم الكونية. 0 الطبيعة البشرية: إن جوهر بني البشر، 0أي ما يميزنا عن الحيوانات، 0هو قدرتنا على استخدام العقل الكوني. 0 علم نفس القدرة: حيث أن التفكر العقلي البشرى تفكر غير متجسد فإنه منفصل ومستقل عن كل القدرات الجسدية كالإدراك (الحسي) وحركات الجسد و المشاعر و العواطف و هلم جرا. العقل الحقيقي 0 المفاهيم الحقيقة: إن المعرفة الموضوعية والحقيقة الموضوعة تتطلبان من المفاهيم الكونية إن تميز السمات الموضوعية للعالم، 0 وينبغي على مثل هذه المفاهيم إن تكون حقيقية،0 بمعنى أن تكون قادرة على الملاءمة المباشرة مع سمات العالم (الحقيقي) 0 كتل المنظومات المفهومية: ينبغي على أي منظومة مفاهيم قادرة على ملاءمة العالم مباشرة أن تكون أحادية المعنى ومتماسكة ذاتيا. 0 عقلانية الوسيلة-الغاية الكونية: إن العقل الكوني يخدم طريقا لاحتساب كيفية الوصول بالمصلحة الذاتية إلى حدها الأقصى بشكل حرفي تماما. وبذا فإن الناس يمتلكون القدرة على تعظيم المصلحة الذاتية. الحرية الراديكالية 0 الإرادة الحرة: إن الإرادة هي تطبيق العقل على الفعل،0 وحيث ان العقل البشر أمر غير متجسد – أي انه حر من قيود الجسد – فإن الارادة حرة حرية راديكالية. وبذا فإنه يمكن للإرادة إن تهيمن على التأثير الجسدي المتمثل في الرغبات والمشاعر والعواطف. 0 العقل الراعى: إن العقل واع،0 ذلك إنه إن لم يكن واعيا فإن العقل غير الواعي سيحدد أفعالنا وعندها لن تكون الإرادة حرة حرمة تامة. الأخلاق الموضوعية 0 الأخلاق الكونية الموضوعية: إن الأخلاق موضوعية،0 بمعنى أن ثمة صحا مطلقا وخطأ مطلقا لأي موقف. 0 الأخلاق الكونية العقلانية: تتميز الأخلاق بكونها عقلانية أيضا،0 منظومة من القواعد الكونية (القوانين الأخلاقية) التي تظهر إما من مفهوم كوني لماهية الأمر "الحسن" [أو الجيد] او من العقل الكوني ذاته. لقد تم افتراض هذا الصور للإنسان في معظم الدين الغربي، ففي التراث اليهودي-المسيحي يكون العقل الكوني هو عقل الخالق، الذي مكون لدى بني البشر القدرة على اقتسامه. إن موضع الوعي والعقل يرتبط بالروح، وحيث أن الروح منفصلة عن الجسد ولا تخضع للقيود المادية فإنها تعتبر هادرة على الحياة عقب موت الجسد. إن الله يقدم وصاياه وأوامره التي هي عقلانية، ولأن بنى البشر تقتسمون عقل الخالق » فإن بمقدورهم معرفة تلك القوانين الأخلاقية. وحيث أن لدى الناس إرادة حرة لا يحدها حد فإن أمامهم أن يختاروا بين إتباع تلك القوانين الأخلاقية وعدم إتباعها، وهنا فإن الإرادة القوية هي الإرادة الضرورية للتغلب على كل إغراء يدعو لانهاك القوانين الأخلاقية. إن هذا التصور حول ماهية الإنسان يخبئ خلف التفرقة الغريبة التقليدية بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، فكل ما هو خاضع للقوانين المادية ممكن دراسته دراسة علمية - ويضمن هذا العالم الصادق ويدخل ضمنه علم الأحياء. ولكن لكون العقل حرا حرية راديكالية وغير خاضع لقوانين السببية الفيزيائية فإنه لا يخضع للدراسة العلمية. ولذا فيفترض أن ثمة حاجه إلى منهجية "تفسيرية" مختلفة للعلوم الاجتماعية. ولهذا السبب لم يؤخذ علم الذهن مأخذ الجد ضمن إطار حقول البحث الإنساني التقليدية. إن النظرة الغربية التقليدية للإنسان تتناقض، كما رأيناه مع كل نقطة من النتائج الجوهرية من علم الأعصاب و علم الذهن التي تعرضنا لها بالنقاش، فليس لدى الإنسان أي تفرقة بين العقل والجسد، وليس لديه عقل كوني، ولا منظومة مفاهيم حقيقية (أي غير مجازية) تماما، ولا نظرة للعالم متسقة وموحدة، كما انه ليس لدى الإنسان حرية راديكالية. تصور الإنسان المتجسد كانت تعويذة الفلسفة الجوهرية منذ عهد سقراط هي "اعرف نفسك". وكي يعرف كل فرد منا نفسه فإن علينا أن نعرف كينونتنا باعتبارنا بشرا. اليكم النظرة الجديدة للإنسان التي ظهرت من كل النتائج التي ناقشناها. الإنسان المتجسد 0 المفاهيم المتجسدة: إن منظومتنا المفهومية تعتمد على منظوماتنا الادراكية والحركية،0 وتعتمد عصبيا عليها،0 وتتشكل على نحو حاسم من خلالها. 0 التصور يتم فقط من خلال الجسد: لا يمكننا تشكيل تصورات ومفاهيم سوى من خلال الجسد،0 وبذا فكل فهم لدينا عن العالم و عن أنفسنا والأخرين لا يمكن تأطيره إلا من خلال المفاهيم التي نشكلها أجسادنا. 0 مفاهيم المستوى -الأساسي: هذه المفاهيم تستخدم منظوماتنا الادراكية والصورية و الحركية لتسم فعلنا الأفضل في حياتنا اليومية. و هذا هو المستوى الذي نتصل فيه أكبر اتصال بحقيقة بيئتنا. 0 التفكير العقلي المتجسد: إن الأشكال الأساسية من الاستنتاج العقلاني هي شواهد على استنتاجنا الحسي – الحركي. 0 الحقيقة والمعرفة المتجسدتان: حيث إن أفكارنا مؤطرة بمنظوماتنا التصورية المتجسدة،0 فإن الحقيقة والمعرفة تعتمدان على الفهم المتجسد. 0 العقل المتجسد: حيث أن كلا من مفاهيمنا وتفكيرنا العقلي مستمدان من المنظومة الحسية-الحركية بشكل منتظم إلى حد أنها تغدو مترابطة عصبيا. إن الاستعارة الأساسية هي تفعيل لتلك الروابط العصبية،0 مما يمكن الاستنتاج الحسي – الحركي من خلق بنية لتصور التجربة والأحكام الشخصية. 0 التفكير العقلي الاستعاري: إن الاستعارات المفهومية تسمح باستخدام الاستنتاج الحسي – الحركي للتصور والتفكير العقلي التجريديين،0 وهذه هي الآلية التي يكون فيه التفكير العقلي المجرد متجسدا. 0 التفكير العقلي المجرد: بالسماح لنا بإسقاط (تجربتنا المادية) في ما وراء تجربتنا على المستوى الأساسى فإن الاستعارة التصورية المفهومية تجعل من التفكير النظري المجرد في العلوم والفلسفة وأشكال التفكير الأخرى أمرا ممكنا. 0 التعدد المفاهيمي: حيث إن الاستعارات المفهومية والنماذج الأصلية(prototypes) وهلم جرا تشكل بنية المفاهيم المجردة بسبل شتى فإن لدينا منظومة مفاهيم متعددة الأوجه،0 تتضمن تشكيلات مفاهيم مجردة غير متسقة مع بعضها البعض. 0 عدم وجود عقك نية الوسيلة - الغاية الكونية: لأننا نفكر مستخدمين استعارات ونماذج اساسية متعددة فلا يوجد في أغلب الحالات "مصلحة ذاتية" واضحة جلية يمكن للمرء تعظيمها. وبذا فإنه لا توجد عقلانية الوسيلة -الغاية الكونية الطابع التي يمكن لها دائما أن تحسب الكيفية التي يمكن بها تعظيم ما ليس له نموذجيا شكل واضح - أي "المصلحة الذاتية" الموضوعية،0 وبذا فليس بمقدور الناس أن يكونوا معظمي مصالحهم الذاتية. الحرية المحدودة 0 العقل غير الواعي: إن معظم تفكيرنا يقع تحت مستوى الوعي. 0 التصور التلقائي: حيث إن منظوماتنا التصورية يتم تفعيلها عصبيا في أدمغتنا بسبل ثابتة نسبيا،0 وحيث أن معظم الفكر ذو طبيعة تلقائية وغير واعية،0 فإننا،0 في الأغلب، 0لا نملك سيطرة على كيفية تصورنا للمواقف وتفكيرنا العقلي حولها. 0 صعوبة التغير المفاهيمي: حيث أن منظوماتنا المفهومية في الأغلب غير واعية وثابتة عصيبا فإن التغير المفاهيمي يكون في أفضل الأحوال بطيئا وصعبا،0 فلا يمكن لنا بحرية إن نغير منظوماتنا المفهومبة على شاكلة كن فيكن. 0 الإرادة المتجسدة: حيث أن العقل متجسد وحيث أن الإرادة هي العقل المطبق على الفعل فإن أرادتنا لا يمكنها أن تتجاوز قيود الجسد. الأخلاق المتجسدة 0 لا توجد أخلاق "عليا": إن كل مفاهيمنا حول ما هو أخلاق ينبع،0 مثل كل مفاهيمنا الأخرى، 0 من الطبيعة الخاصة للتجربة الإنسانية المتجسدة. وكل تصوراتنا حول الأخلاق لا يمكنها أن تكون موضوعية أو أن تكون مستمدة من "مصدر اعلى." 0 الأخلاق الاستعارية: إن المفاهيم الأخلاقية استعاريه في اغلبها،0 وتقوم بشكل اساسي على خبرتنا بالرفاهية وبالأسرة. 0 تعدد المنظومات الإنسانية الأخلاقيه: حيث أن المنظومة الأخلاقية الخاصة بكل فرد من الأفراد محتوي على عدد كبير من الاستعارات الأخلاقية،0 التي قد لا تكون كلها متسقة مع بعضها البعض،0 فإن كل منها يحمل في داخله تعدديه أخلاقية. الطبيعة الإنسانية فما وراء الجوهرية 0 الطبيعة الإنسانية بدون الجوهر: تنشط علوم الذهن والأعصاب والأحياء في توصيف الطبيعة الإنسانيه.0 ولا تعتمد توصيفات الطبيعة الإنسانية على نظريه الجواهر الكلاسيكية. إن الطبيعة الإنسانية يتم فهمها عوضا عن ذلك على أساس الاختلافات والتغير والتطور،0 وليس فقط على أساس قائمة ثابتة من السمات المركزية. إن من طبيعتنا أن نختلف وان نتغير. ما لا يعد تطورا هناك نظرية شعبية للتطور مفادها أن التطور هو صراع تنافسي على العيش والتكاثر، ولهذه النظرية استتباعات معيارية: فالصراع التنافسي للعيش والتكاثر يغدو أمرا طبيعي. أضف إلى هذا أن هذا الصراع هو أمر حسن لأنه هو الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه. إن هذه النظرية الشعبية موجودة في كل مكان في ثقافتنا، وتستخدم استعاريا لتبرير أشكال اقتصاد السوق الحر، والاصلاح التربوي وأساسا للأحكام القانونية وممارسة العلاقات الدولية. وما يستخلص من هذه النظرية وتطبيقاتها الاستعارية هو أن من الطبيعي إن يسعى الإنسان وراء مصلحته الذاتية على نحو تنافسي والفشل في ذلك هو أمر غير عقلاني. إن الاستتباع المعياري لهذا هو أن النظام الاجتماعي، في كل مجالاته، تحكمه، على نحو طبيعي، قواعد المصلحة الذاتية التنافسية وان كل ما يتعارض مع ذلك هو أمر غير طبيعي وغير أخلاقي. وهنا فإن لدينا أمرين أساسيين نقولهما حول النظرية الشعبية ومطبقاتها: (1) إن الرأى الذي ينشأ منها حول المصلحة الذاتية هو رأى خاطئ من الناحية التجريبية، (2) إن الرأي حول التطور الذي تغلفه النظرية الشعبية يقوم على استعاره غير دقيقة لماهية التطور. وكلا من النظرية الشعبية وتطبيقها قد ضلا الطريق على نحو تام. الأنانية في مقابل الإيثار لا نصدم إن وجدنا ان قضية الإيثار قد اتخذت موقعا مركزيا في محاولات عصرية كثيرة لفهم الأخلاق في سياق التطور، فالإيثار يغدو "مشكلة" - بل انه يصبح هو المشكلة ذاتها- فيما يتعلق بالنظرية الأخلاقية، إن تقبلنا المفهوم التقليدي للانسان كما تطور منذ المدرسة النفعية Utilitarianism ودارون. والمشكلة تكمن فيما يلي: لم مؤثر الإنسان الآخرين في تعامله إن كان الناس بطبيعتهم "عقلانيين" حيث "العقلانية" تعني للناس تعظيم المصلحة الشخصية لذات؟ ولم ينبغي على الإيثار اصلا أن يتغلب على الأنانية ؟ في الفلسفة الغربية يوجد تاريخ طويل للنظر إلى العقلانية على أساس السعي الفعال وراء المصلحة الذاتية، ويعود هذا زمنيا إلى تركيز ابكيوروس Epicurus على السرور والألم باعتبارهما مصدر عز كل فعل بشري: فالإنسان العقلاني يركز على السرور ويجنب الألم، وهنا يتمثل الخير في تعظيم السعادة التي ممكن أن يجنيها الإنسان. وقد تعامل الجانب الأغلب من علم النفس في فتره النهضة مع بني البشر باعتبار أن ما يحركهم أساسا هو الرغبة لتعظم راحتهم، وقد افترضت النظرية الاقتصادية في تلك الفترة هذا النموذج النفسي، ومضت في تحديد عقلانية الوسيلة-الغاية باعتبارها الحساب الكافي للوسائل المؤدية إلى غايات قابلة للقياس ومحددة تحديدا وضاحا. ولأن العقلانية كانت تعتبر السمة الوحيدة المميزة للطبيعة الانسانية فقد اعتبر انه من الطبيعي أن يستغل الناس عقلهم لتعظيم ما يرونه مصلحة ذاتية. وقد افترض المذهب النفعي هذه النظرية للطبيعة الانسانية وسعت وراء منظومة أخلاقية يوتوبية بناء عليها. ففي هذه المنظومة الاجتماعية "المثالية" يكون لكل فرد الحرية القصوى للسعي وراء مصلحته الشخصية باتساق مع الآخرين الذين يملكون الحرية ذاتها. وقد تم تفسير – أو لنقل أسيء تفسير – نظرية التطور التي أتى بها دارون على نطاق واسع وذلك لكي تلائم النظرية الى ذواتنا باعتبار ان من طبيعتنا أن نعظم مصلحتنا الذاتية. ونظرية التطور في ذاتها هي تفسير لبقاء الأنواع على أساس التلاؤم مع الظروف البيئية، وقد تم استخدام التلاؤم الدارويني استخداما مضللا باعتباره استعارة على أساس "التنافس" أي الصراع التنافسي على الموارد النادرة، ذلك الصراع الذي لا يخرج منه منتصرا سوى القوي والماكر الذين يدخرون من السلع ما هو ضروري لحياتهم وسعادتهم. ثم عزي "النجاح" التطوري للناس في هذه "المنافسة" في الداروينية الاجتماعية الى العقلانية الانسانية: فالذين يعظمون مصالحهم الذاتية على اكمل وجه هم الذين ينتصرون في الصراع التنافسي. إن تراث المذهب النفعي والداروينية الاجتماعية المتسق هو نظرة مترسخة رسوخا عميقا للعقلانية الإنسانية باعتبارها تعظيم المصلحة الذاتية، والصورة الرياضية منها تكمن في نموذج الفاعل -العقلاني، الذي ناقشناه.في الفصل 23. وكما رأينا فإن نموذج الفاعل-العقلاني يتطلب استخدام مالا يقل عن ثلاثة مستويات من مستويات الاستعارة، وهذا ليس حسبنة mathematization حقيقية سواء لما يزعم من "بنية عقلانية للعالم" أو للعقلانية الإنسانية. بل كما رأينا فإن العقلانية الإنسانية الحقيقية تستخدم الظواهر غير الواعية مثل التأطيرات المفهومية والنماذج الأساسية والاستعارات وهلم جرا. إن المفهوم نفسه أي مفهوم "المصلحة الذاتية" الواضحة المعالم والكونية والمتسقة الموجودة عند كل فرد بشري في فترة طويلة من الزمن يصبح مفهوما خاليا من أي معنى؟ حيث تستبعده الاعتبارات التالية: 1- إن معظم تفكيرنا العقلي غير واع، ولذا فإن معظم تحديدات المصلحة الذاتية على حياتنا اليومية لا يتم فعلها على مستوى الاختيار الشعوري. 2- إن منظوماتنا المفهومية غير الواعية تستخدم عددا من الاستعارات والنماذج الأساسية، وعلى وجه الأخص في نطاق استعارات ما هو صحيح وما ينبغي السعي اليه. وبذا ففي معظم الاحيان لا يوجد مفهوم متسق داخليا وأحادي المعنى للشيء "الحسن" او "أفضل النتائج." 3- وحيث أن تفكيرنا العقلي غير الواعي حول ما هو "افضل النتائج" كثيرا ما يتعارض مع إصرارنا الواعي للحصول على "افضل النتائج" فلا يوجد محل منفرد متكامل متسق "المصلحة الذاتية." ايجازا نقول أن طبيعة المنظومات المفهومية الإنسانية تجعل من المحال علينا أن نكون معظمين موضوعيين لمصلحة ذاتية متسقة واحادية المعنى. نرى الآن إذا أن المشكلة الأخلاقية المتمثلة في الصراع الظاهري بين الأنانية (أو "العقلانية") والإيثار هي مشكلة سيئة التحديد ذلك أن مفهوم العقلانية هو مفهوم خاطئ تجريبيا: فلسنا ولا نستطيع أن نكون معظمي مصالحنا الذاتية بالمفهوم التقليدي، أضف إلى ذلك أن مفهوم الإيثار هو مفهوم سيء التحديد، فكما رأبنا في الفصل 14 فإن المنظومات الأخلاقية يتم تحديدها بالنسبة إلى نماذج أسرية يتم جعلها مثالية (مثل نموذجي الأب المتزمت والوالد المحتضن)؟ وبذا فإن ما يكون دليلا على "الإيثار يختلف اختلافا كبيرا في الأخلاقيات المختلفة القائمة على الأسرة. ولنعرف السبب لنتأمل في أبسط الأمثلة: التبرع بالمال والوقت لقضية سياسية تؤمن بها هو عمل صائب أخلاقيا. وحسب صورة محافظة سياسيا من أخلاقيات الأب المتزمت فإن تحريم الإجهاض سيكون مثالا جيدا على مثل هذه القضايا "الصائبة أخلاقيا؟ بينما ستؤكد صورة ليبرالية سياسيا من أخلاقيات الوالد المحتضن إن ضمان حق المرأة في الاختيار هو فعل "صائب أخلاقيا. وكلا الجانبين سيعتبران التبرع بالمال والوقت فعلا ايثارا خالصا من اجل ما هو صائب أخلاقيا ولرفاهية الآخرين والمجتمع على وجه العموم. إن ما يظهره هذا هو حتى لكي نفهم ما هو إيثاري في حالة من الحالات يتعين على المرء إن ينظر إلى أطر أخلاقية قائمة على أساس الآسرة تشكل بنية اللاوعي المفاهيمي. إن دراسة تلك الأطر الأخلاقية وعواقبها، وهو ما يعتمد على تقنيات يقدمها علم الذهن، هي أمر مركزي فيما ينبغي على نظرية أخلاقية مستقبلية إنسانية إن تركز عليه. التطور والنظرية الاخلاقية القائمة على الأسرة في نظرية التطور يتم ربط البقاء بالقدرة على ملاءمة الظروف البيئية. إن ملاءمة ظرف ما إذا يمكن إن تحدث لأسباب عديدة: فقد تكون عملية تلوين يقصد منها إخفاء شخص ما عن أعين آخرين مفترسين، وقد تعني أيضا عدا كبيرا من النسل، وقد تعني توافر الغذاء وهكذا. إلا انه مما يدعو للأسف إن علم الأحياء التطوري قد اكتسب في العقل الشعبي تفسيرا يقوم على استعارة الأب المتزمت حيث يتحول بقاء أولئك الذين يلائمون ظروفهم إلى استعارة هي التطور هو بقاء المتنافس الأفضل. وقد تم تطبيق استعارة الأب المتزمت للتطور استعاريا من تطور الأنواع إلى كل انواع التغير الطبيعي التي لا تتعلق باي وجه حقيقي بعلم الأحياء التطوري، وعندها تغدو الاستعارة التغير الطبيعي هو تطور. وقد أضيف إلى هاتين الاستعارتين نظرية شعبية حاسمة هي نظرية افضل النتائج التي تقول أن التطور يقود إلى أفضل النتائج. ويقوم التفكير هنا على أساس استعارة النظام الأخلاقي (انظر الفصل 14) حيث يصنف الناس باعتبارهم "أفضل" من الحيوانات والنباتات ومظاهر الطبيعة الأخرى. وإذا كان التطور قد أنتجنا فإنه ينبغي على التطور أن ينتج "تحسينات". ولا يوجد من كل هذا ما هو جزء من نظرية التطور الحقيقية. إن استعارتي التغير الطبيعي تطور التطور هو بقاء المتنفس الأفضل إضافة إلى النظرية الشعبية حول أفضل النتائج قد ترابطت لتنتج الاستعارة المركبة التغير الطبيعي هو بقاء المتنافس الأفضل الذي ينتج أفضل النتائج. وقد استغلت هذه الاستعارة الناشئة من أخلاقية الأب المتزمت في الدعوة، كلما ظهرت الحاجة إلى تغيير ما، إلى إدخال شكل صناعي من "التطور"- فرض بطريق القانون للمنافسة التي يقودها السوق. وهناك قضيتان، أولهما أن فكرة كون آلية عمل السوق تشبه التطور هي فكرة استعارية تقوم على استعارة التطور هو بقاء المتنافس الأفضل. ثانيا، إن التطور الحقيقي هو عملية طبيعية ولا يحتاج ليتشكل إلى القانون والى الفرض الحكومي، وبذا فإن مما يبعث على السخرية حقا ان هذه الدعوة تقدم على أساس أن مثل هذا التغير هو تغير "تطوري"؟ اي انه طبيعي ومنتج لأفضل النتائج. ومن الأمثلة على هذا الشكل من المحاجة الدعوة إلى خصخصة المدارس العامة. لنفترض أن المدارس العامة قد تمت خصخصتها من خلال التشريع (الوسائل المصطنعة) وعبر نظام مصاريف لمدارس تديرها الحكومة (أي سوق منتج اصطناعيا هنا فإن على المدارس أن تتنافس، ولن يبقى سوى المتنافسين الأفضل، ولن تبقى المدارس التي تفشل في المنافسة، وستكون المدارس الباقية من وجهة نظر النظرية الشعبية حول النتائج الأفضل هي المدارس الأفضل. وهذه حجة تقوم اساسا على استعارتين وعلى نظرية شعبية ؟ كلها تقوم على أخلاقية الأب المتزمت. إن كثيرا من الناس لا يلاحظون أن التطور هو بقاء المتنافس الأفضل هو حقا استعارة ترتبط باستعارة الأب المتزمت. إن أحد السبل لإظهار طبيعتها الاستعارية يمكن أن تتم من خلال مقارنتها باستعارة للتطور تعتمد على أساس أخلاقيات الوالد المحتضن، لتصبح الاستعارة التطور هو بقاء الأفضل احتضانا. هنا تتضمن عبارة "الأكثر احتضانا" الاحتضان الحقيقي من قبل الوالدين والآخرين والاحتضان الاستعاري من قبل الطبيعة نفسها. وحيث إن التلاؤم مع ظرف بيني يتم تصوره استعاريا باعتباره انتصارا في منافسة في الحالة الأولى، فإنه يتصور استعاريا باعتباره محتضنا ومرعيا من قبل الطبيعة في الحالة الأخرى. وكلتاهما استعارتان للتطور، غير أن لهما استتباعات غاية في الاختلاف، وخصوصا حينما ترتبط بالاستعارة التغير الطبيعي تطور والنظرية الشعبية بأن التطور يأتي بأفضل النتائج. وإذا رضعنا هذه مع بعضها البعض ينتج لدينا استعارة مركبة مختلفة جدا للتطور الطبيعية اي التغير الطبيعي هو بقاء الأفضل احتضانا وهو ما ينتج افضل النتائج. وان أردنا أن نطبق هذا على قضية ما إذا كان ينبغي خصخصة المدارس العامة، فإن هذه الاستعارة ستستنبع أن هذه المدارس يجب الا تخصخص. بل إن المدارس العامة ينبغي أن "تحتضن بشكل افضل"، أي إعطاؤها ما يستلزمه تطويرها من موارد من مدرسين مدربين ومكافأين بشكل افضل ومن صفوف اصغر وتسهيلات أفضل وبرامج لإشراك الآباء، وارتباطها بالمجتمع، وهلم جرا. إن ما نود قوله هو ان تصوري التطور كليهما- بقاء الأفضل احتضانا وبقاء أفضل المتنافسين- استعاريان. وهما ليسا في الحقيقة عن التطور، بل انهما نشئا من نظريات أخلاقية، التغير الطبيعي تطور ليس حقيقة واقعية، بل إنها استعارة هي الأخرى، فليس كل التغيرات الطبيعية تعمل بآليات الأحياء التطورية، التي تتعلق حقيقة بالأنواع الاحيائية وبالتكاثر، فى الظروف البيئية في البيئة المادية فقط. أضف إلى ذلك انه ليس حقيقة أن التطور ينتج النتائج "الأفضل". فهي ليست سوى نظرية شائعة ولا تقوم على أساس في واقع الأمر. نكرر مرة أخرى إن وسائل علم الذهن تمكننا من رؤية ما لا يمكننا أن نراه بدونها. فقد رأينا في الأمثلة السابقة القدرة الإيضاحية للاوعي الذهني وللفكر الاستعاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2. الرحبي، سيف (1998: يد في أخر العالم، دمشق: دار المدى للثقافة والنشر (2 55). 3. ii Lakof, G. (1987): Women, Fire and Dangerous Things, Chicago and London: the University of Chicago Press. 4. iii Johnson, M. (1987): The Body in the Mind: The Bodily Basis of Meaning, Imagination, and Reason, Chicago University Press: Chicago and London. 5. iv Lakoff, G. and Johnson, M. (1999): Philosophy in the Flesh, New York: Basic Books. | |||||
|
الجمعة، 1 أكتوبر 1999
الاستعارة، التجربة، العقل المتجسد
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)