عمان،وموضع القدم، وأشياء أخرى
نحو ما بعد "الهم الثقافي"
عبدالله الحراصي
يخبرنا محمد بن سيف الرحبي (الصفحة الثالثة من ملحق عمان الثقافي 1-أكتوبر-1998) ان "الهم الثقافي يطارد المسكونين به" وان "المبدع يكون مسؤولا امام التاريخ والمجتمع عن صدق ارهاصاته"، ويقول أيضا ان المثقفين "تتمرغ حياتهم في قارورة حبر- وليس عطر- يسكبونها مع او ضد المألوف والنشاز. يؤسسون لأنفسهم صرحا من المعاناة والألم والوحدة". مقالي هذا يدعو الى تجاوز هذا الطرح للثقافة والوعي والمعرفة، ويجادل بأن هذا الخطاب الثقافي، أي ما أسميه بخطاب الالم والهم والمعاناة والوحدة والابداع والاجتراح والانجراح، خطاب مجمد مكرر مستهلك لا يقود، ولم يقد، الى أي خير فكري أو معرفي، بل حتى إبداعي بمفهوم الابداع الذي يطرحه هذا الخطاب نفسه. أجادل ايضا ان ربط التنظير الثقافي الموجود بهذه التصورات النفسية التأزمية الطابع قد أقصى جوانبا معرفية تكمن في صلب كينونة المجتمع وهويته. ولذا ومن منطق المنفعة المعرفية ومن منطق المسئولية التاريخية، يتوجب، فيما أرى، تجاوزه الى خطاب معرفي يتجاوز عثرات خطاب الهم.
لا أود أن أبدو، وليس قصدي هنا ان أكون، هجوميا او دفاعيا، فلسنا في معركة ولا أرى مبررا لها. المعارك بإنتصاراتها وهزائمها قد تكون اجابات على اسئلة خاطئة، وهو ما لا أرجوه للأسئلة المثارة في هذا المقال.
كل ما أود قوله هو ان طرح الثقافة بكونها ألما أو انعكاسا لألم ومعاناة هو طرح طال عمره، فقد استمر منذ النصف الثاني من الثمانينات، تلك الفترة التي أخذ هذا الخطاب في التشكل في الصفحات والملاحق والبرامج الثقافية في مخرجات الاعلام العماني. هذا الطرح الذي شهدته الساحة العمانية كان بمثابة استمرار للطرح الحداثي الذي تغلغل بقوة في الكيان الثقافي العربي بأكمله. الطرح الحداثي كان طرحا لا يخفي طبيعته الصراعية، الراغبة في الهيمنة والذيوع، والانتصار على الخطاب التقليدي.
على المستوى العماني بدا الأمر وللحق رائعا وظاهرة حملت معها أمنيات واسعة تتجاوز واقعا ثقافيا افترض حينها انه كان سائدا. أعني اننا قرأنا عن زعزعة السائد والمألوف كتوجه يتوجب ترسيخه في كياننا الثقافي، وهو توجه يبرر ذاته، و، من منظور نقد الخطاب، طرح لخطاب معارض للخطاب المهيمن، الذي صور بأنه خطاب تقليدي، تكراري يرسخ قيما، ادبية كتابية في أغلبها، يتوجب تجاوزها.
انعكس هذا التوجه الذي يشار اليه عادة ب"الحداثة" على الساحة الادبية تحديدا، فظهرت اشكال ادبية تتمحور كلها حول قصيدة النثر والقصة القصيرة، وظهر الكثير من الشعراء والقاصين سواء في الصفحات الثقافية او على شكل مجموعات شعرية او قصصية. هذا على مستوى المنتج، وهو منتج لم يكن بقدر الطموح فمعظم الموجود هو إما ركام لفظي حول تكسر المرايا والوحدة والعزلة والغياب، او أصداء عمانية لكتاب عرب لا تخطئهم عين القاريء العادي.
عبارة محمد الرحبي التي تقول ان "المبدع يكون مسؤولا أمام التاريخ والمجتمع عن صدق ارهاصاته" تشير الى سمة تميز خطاب الالم، وهو انكفائيته على الشخص-الكاتب. نحن هنا بإزاء المبدع الذي يرى نفسه مركز الكون. والتاريخ والمجتمع هنا يحاسبان المبدع "عن صدق ارهاصاته". المعرفة ككيان، والحياة البشرية على وجه العموم، ليست أمرا محوريا هنا، والتاريخ والمجتمع، ان اتفقنا على منحهما وظيفة رقابية، يراقبان المثقف لا الثقافة، والمعيار انكفائي أخلاقي هو الآخر يتمحور حول صدق الارهاصات. التاريخ والمجتمع يغدوان جهازان لكشف كذب المثقف العماني. هذا الخطاب أقرب ما يكون الى اجواء الاختلال المجتمعي والجرائم والمحاكمات منه الى جو معرفي سوي.
أرى هنا ان الثقافة، كمؤسسة اجتماعية، المصدرة لهذا لخطاب الهم هي نفسها التي تخلق مفاهيمها التي لا تقابل بالضرورة أمورا لها وجود في الواقع. خطاب الهم الثقافي يخلق هنا مفهوما للتاريخ والمجتمع يدور في فلك المثقف المبدع يرصد حركاته وسكناته ويفضحه إذا كذب. التاريخ والمجتمع ليسا في ذاتهما موضوعا، الحياة ليست موضوعا الا في موقعها من المبدع. وهنا كمنت الخطورة وحدثت في مظاهر شتى. في سيادة مؤسسة ثقافة المعاناة والألم ينعدم الكون بأكمله ويبقى المبدع (أو المبدع الدجال إن صح التعبير).
قد يجادل البعض قائلا بأن مفاهيما مثل التاريخ والمجتمع تخلق في كل الاحوال، وأنا هنا لا اعارض ذلك، بل أؤيده بقوة، فالمفاهيم والمعاني ظواهر ذهنية في كل الأحوال. لكني أقول انه يمكننا ان نخلق تصورات للتاريخ والمجتمع تتجاوز، ولا تلغي في الان ذاته، دورهما الرصدي هذا. يمكننا مثلا ان نخلق مفاهيم وتصورات للتاريخ والمجتمع تجعل المثقف والمبدع يعيشهما ويتفاعل معهما، لا أن يرى فيهما انعكاس سريرته فحسب.
إذا علينا ان نتجاوز خطاب الالم هذا، وجميع التصورات التي ترافقه وتعكس طبيعته الانكفائية الشخصية، لأنه خطير في مستويات كبيرة. الخطورة، مرة اخرى، أمر جدلي يقبل النقاش ووجهات النظر المتعددة، غير اني مع خلق تصورات نافعة تنتج فضاء معرفيا يتجاوز الفضاء الضيق الذي وضعنا فيه خطاب الهم والمعاناة. اني لا أطرح مخططا آخر، لكن كل ما اقوله هو ضرورة خلق تصورات اخرى أنفع وأجدى معرفيا واجتماعيا وتاريخيا، وهو ما سأوضحه في موضع آخر من هذا المقال.
إضافة الى انكفاءه على الشخص-المثقف-المبدع، فإن خطاب "الهم الثقافي" كان، وما يزال، خطاب إقصائي لغيره من اشكال المعرفة. إذا كان الانكفاء سمة تميز خطاب الهم فإن هذا الخطاب لا يختلف عن كل خطاب اجتماعي في رغبته في الهيمنة. كيف تتم الهيمنة؟ انها تتم من خلال استخدام آليات استراتيجية، بعيدة المدى في تأثيرها، تصب في النهاية في خانة بقاء خطاب الهم الثقافي والقضاء المبرم على الخطابات الاخرى التي تحاول البقاء هي الاخرى. تجلية هذه الآليات أمر يتطلب دراسة عميقة ومفصلة، وهو ما لا اسعى اليه في هذا المقال الذي يحاول تقديم المشكلة ليس الا، غير اني أشير بإيجاز الى احدى هذه الآليات في رأيي وهي ما أشير إليها بآلية الاقصاء. الاقصاء هنا هو مظهر من مظاهر القهر والقسر (المعرفيين)، ويتمثل في توجيه عملية التفاعل الناشئة والمرتبطة بهذا الخطاب على نحو يقود الى إبعاد أي خطاب آخر، كالخطاب الديني وخطاب المجتمع التقليدي بل حتى بعض المظاهر المبكرة لخطاب الوعي المعرفي التفاعلي الذي أرى فيه مخرجا.
ان آلية الاقصاء تمارس دورها على المستويين الواقعي والمستقبلي. الاقصاء الواقعي يعني ان سيادة هذا الخطاب الهمي في عمان يقصي ويستبعد انماط المعرفة التي لا تستدعي أي شكل من أشكال "الالم" كالبحث العلمي بمختلف أشكاله، والكتابة التاريخية، والكتابة الدينية وغيرها من اشكال المعرفة. وهذا ما حدث فعلا فلأن الضوء الاعلامي كان، وما يزال، مركزا على هذا الخطاب تم، ويتم، استبعاد كتابات كثيرة مهمة كالدراسات الكثيرة التي كتبها الباحثون العمانيون في كثير من الجامعات العربية وغير العربية في شتى المجالات. كذلك أقصى هذا الخطاب كل حديث او نقاش في موضوعات فقهية او عقيدية لا يمكن استبعادها في جو معرفي تفاعلي. أيضا كان من نتائج ذلك غياب عدد من الكتاب العمانيين الذين كتبوا في الخارج في مواضيع فكرية وفلسفية وتاريخية وغيرها، وعلي المزروعي ليس الا نموذجا واحدا. قد يجادل البعض بأن هذا الاقصاء قد لا يكون قصديا، وأن الوضع الثقافي تطور كيفما اتفق، هكذا دونما مخطط مسبق يقود الى ما اعتبره في هذا المقال أمورا غير صحية. قد يكون هذا الكلام صحيحا، على مستوى الشعور والوعي والقصدية الفردية، لكني انظر الى الامر هنا من منظور عملية اجتماعية اشمل. أرى ان القول، حتى القول، بعدم وجود قصدية وراء حالة الوضع الثقافي يعني ان الأمر اعتباطي وان المجتمع، ممثلا في ثقافته، يتحرك فاقدا العلة المحركة بالمفهوم الفلسفي.
من هذا المنظور فإن استمرار اقصائية هذا الخطاب وانقطاعه عن الجسد المعرفي العماني، وهي نقطة سأعود اليها لاحقا، لا بد من تفحصه بعمق ودقة. ان استمرار وضع ثقافي مثل هذا من المحال ان يكون أمرا اعتباطيا، وأرى انه كان جزءا من حركة تفاعل، قد لا يكون الفرد كفرد واعيا بها وبأبعادها، عززته ورسخته وصنعت منه سائدا مألوفا.
التأثير المستقبلي للإقصاء يتمثل في فكرة ان المستقبل يقوم على الحاضر في عملية تراكم وتفاعل معرفيين وإبداعيين. المعرفة في جانب كبير منها أمر تراكمي. بحيث ان ما نقصيه اليوم سوف لن يكون له وجود غدا في حالة استمرار ذات الخطاب المسيطر، وان المعرفة سوف تتراكم على أساس ما يقدمه هذا الخطاب المسيطر، وهو ما حدث فعلا فخطاب الألم والمعاناة أنتج ركاما من اللغة الألمية. ان المستقبل يقوم على الحاضر، وما نقصيه اليوم من فضاءنا المعرفي سيدخل دائرة العدم مستقبلا، مما ينحيه من أي تفاعل ايجابي الطابع.
أود أن اطرح سبيلا اخر لرؤية بعض انعكاسات هذا الخطاب الهمومي، وهو ما اسميه بقيم مجتمع المثقفين. القيم هي قوانين السلوك ومحدداته. فكيف يسلك مثقفو الهم ويتعاملون في مستواهم الحياتي مع انفسهم ومع الاخرين؟ ان القيم التي سادت والتي لمسها كل من احتك بالكتاب العمانيين (أغلبهم أعني) ليست قيم مجموعات بشرية سوية ان درست من منظور علم النفس (أشير هنا الى ان غرائبية المبدع أمر مقبول في كل المجتمعات وهو ما لا اعنيه هنا). في أغلب الجلسات التي تجمع المثقفين لا حديث الا عن الالم والمعاناة. انعكس هذا على اللغة المستخدمة، في طرق التخاطب، فظهرت عبارات مثل "كيفك، كيف الصباح، كيف الألم، كيف الوجع … " (و"كيفك" هذه لا تنطق بمخارج أصوات لهجات عمان بل بلكنات شامية أو عراقية، وهو ما سأعود إليه بعد قليل). ما معنى هذا كله؟ الامر بلا ريب بحاجة الى دراسات نفسية واجتماعية عميقة، بل انني أمضي لأقول ان فهم قيم أغلب المثقفين العمانيين (المهمومين) ورؤيتهم للعالم يتطلب أولا وقبل كل شيء دراسات انثروبولوجية. أوليست الانثربولوجيا هي العلم الذي يدرس أصول المجموعات البشرية وسلوكها وتطورها الاجتماعي والثقافي؟ أوليس مثقفونا مجموعة بشرية تتميز عما عداها؟ (يقول خليفة بن سلطان العبري: "من النادر سفر أديب وبرفقته فرد من خارج دائرة المثقفين"- أيضا في الصفحة الثالثة من ملحق عمان الثقافي 1-أكتوبر-1998).
وفي فقدان هذه الدراسات اطرح فرضية واحدة وهي ان مجتمع المثقفين اتبعت ما يمكن ان اسميه ب"التضاد" كتابة وسلوكا. تبعا للطرح المغاير (بل والمعادي من خلال آلية الاقصاء) للتقليدي والسائد، كان لا بد من "المضاد" والمخالف. شكلا كما اشرنا اخذ هذا محاولات تتجلى في تجارب في قصيدة النثر وفي القصة القصيرة، أدى في مجمله الى ركام شكل هو نفسه في النهاية ضربا من السائد غريب الاطوار ليس له بعد معرفي أو ابداعي حقيقي لا في ذاته ولا على مستوى المجتمع. مجموعات قصص ودواوين شعر تظهر لا يجمع بينها الا الاستهتار بالمعرفة، واستسهال الكتابة، استهتار واستسهال لم يعد في ملك من يشعر بالمجتمع والتاريخ ان يصمت إزاءهما.
على مستوى السلوك اللغوي، اتخذ التضاد اشكال عديدة، يصعب حدها هنا. يمكن الاشارة فقط الى معاداة اللهجات العمانية وإقصاءها بلهجات شامية او عراقية (وليست مصرية، فمصر تمثل سائدا من منظور هذا الخطاب)، حتى من قبل من لم يزر اقرب الدول الى عمان، ودعك من الشام او العراق. لم يعد غريبا ان تجد مثقفا عمانيا يحدثك بلهجة من لم يخرج من بغداد او النجف أو بيروت أو بعلبك .. لا أحد يستطيع ان يحسدنا..
بعض التجليات الاخرى بدت في موضات لفظية تتناثر في منتجات خطاب الهم.. مثل "الصباحات والمساءات، المشاهد، المشهدية، التشظي، الغياب، الذاكرة، العزلة، الوحدة …الخ".
واذا كانت هذه بعض تجليات ظاهرة التضاد، فإن ثمة ظواهر مرضية (نفسيا واجتماعيا) تتجلى اساسا بما لا يمكنني الا ان اسميه بفقدان الانتماء المعرفي. وهذه ظاهرة خطيرة جدا يتوجب التوقف عندها وإمعان النظر فيها مليا. ما الذي أعنيه بفقدان الانتماء المعرفي؟ عمان ليست صدفة تاريخية، بل هي كيان له جذور تاريخية راسخة معرفيا. رسوخ تدل عليه بعض الكتب التي نشرت، والكثير مما لم ينشر. معرفة في كل مجالاتها لا حد لها، أدب و"ابداع"، و"ألم" لا نهاية لإنفتاحه
يا برق حرك همومي ان تكن سكنت فكــل حظي تحريك وإسكــــان
لكنه هم مختلف وبالتأكيد ليس هو "الهم الثقافي".
ان المعرفة العمانية طوال تاريخها، استطيع ان ادعي بيسر، كانت معرفة تفاعل مع الواقع الحياتي وتواصل مع ما سبقها وعايشها معرفيا. ان هذه المعرفة استطاعت بتفاعلها مع الاحداث التاريخية تأكيد الهوية العمانية التي ميزت عمان تاريخيا عما عداها. ما معنى غياب، أو تغييب، هذا الجسد المعرفي من الواقع الثقافي في عمان؟ ما معنى جهل الكثيرين بكتاب عمان الذين وصلت بعض مؤلفاتهم الى ما يربو على التسعين مجلدا؟ ما معنى ان يجهل الشعراء العمانيون المعاصرون ابن عديم وسعيد بن خلفان الخليلي و و و ؟ ما معنى عدم قراءة كتب الفقه والعقائد العمانية؟ ما معنى عدم قراءة التاريخ العماني؟ افترض، وأملي ان أكون مخطئا، انه فقدان انتماء معرفي وفقدان شعور بالمسئولية تجاه هذا الانتماء.
ان الامر يتجاوز فقط قضية ال"ما معنى… ؟" بل ان الاخطر في رأيي هو تبعات ذلك علينا كعمانيين قبل ان نكون كتابا ومثقفين. الامر خطير ويتجاوز، عندي، الأسف على هذا الواقع الثقافي. ان الانغماس في خطاب "الالم" و"المعاناة" و"الهم الثقافي" لا يعني فقط فقدان الاستمرارية في مسيرة المعرفة العمانية، وفقدان حاضر معرفي وتدميره عن وعي وعن غير وعي، بل انه تدمير منظم لثوابت تتعلق أساسا بالانتماء والهوية وتفاعل الذات الجمعية العمانية بالآخرين.
ما المخرج؟ قبل ان أقدم طرحي الشخصي أود الاشارة الى بضع نقاط، أولها اني أتحدث بصفتي قد عايشت هذا الواقع الثقافي لأكثر من عشر سنوات كونت خلالها خبرة تمكنني على الأقل من كتابة هذا المقال. هذه الخبرة تكونت أيضا من تفاعلي مع أنواع شتى من المعرفة وضروب شتى من الفكر، ومن قراءات عديدة ومن تخصص واهتمام أكاديميين. لا أود الحديث عن شخصي هنا، لكني ارى ان طرحي للموضوع كما يقرأ الان، مرتبط بي كشخص يعيش هذه اللحظة من الزمن العماني والبشري ويتفاعل معها. في هذه اللحظة أجد ان قراءاتي ودراستي وبحثي في نشوء التصورات والمفاهيم ودلالات هذا النشوء وتطوره تقودني الى مساءلة الواقع الثقافي العماني مساءلة قاسية، لا أقول لفضحه وتعريته، فلست في عداء معه، ولكن لدعوة من يهتم بهذا الشأن للوقوف ورؤية موضع القدم المعرفية.
ثاني النقاط التي أود الوقوف عندها هنا انني حين اتحدث عن الخطاب الألمي في الثقافة العمانية المعاصرة لا أعني أفرادا، بل اني أكاد أميل الى تبرئة الافراد في حدودهم كأفراد، وأرى ان ما أعتبره خللا ووضعا مرضيا يتمثل أساسا في مستوى المؤسسة الثقافية بأكملها. وحين أتحدث عن "مؤسسة" فإني لا أقصد كيانا اداريا بل المثقفين المنتجين لهذا الخطاب بإعتبارهم كتلة لها ترابطها وتجانسها داخل النسق الاجتماعي العماني الأعم. ينبغي ان أشير الى اني استخدمت بعض عبارات محمد الرحبي وخليفة العبري بصفتها تجليا لخطاب اجتماعي يتجاوز حدودهما الفردية.
إضافة الى هذه النظرة الاجتماعية فإني أنظر الى الامر من منظور حركة التاريخ. من منظور "أين نحن الآن والى اين نتجه؟".
إذا، ثانية، ما المخرج؟ اني لا أقدم مخططا، لكني أجادل بأنه من الانفع على المستوى الاجتماعي والتاريخي إعادة النظرة الى المسألة الثقافية والمعرفية الموجودة برمتها. يجب، في رأيي، تجاوز الثقافة (بمفهومها الذي يقدمه خطاب الهم) الى الوعي المعرفي، الذي يشمل الابداع الادبي ولكنه لا يكتفي به. رداء المعرفة يجب في ما أرى ان يغطي آخرين نبذتهم مؤسسة المثقفين التي سادت حتى الان.
انني لا ادعو الى إلغاء المؤسسة الاجتماعية المسماة بالثقافة، ولكني أرى ان حالتها الحالية أمر خطير، وانها تدور في دائرة مفرغة، ولذا يجب إعادة صياغتها بأشكال تشمل شتى أنواع المعرفة، وبقيم ثقافية - معرفية مختلفة. وهذا موضوع يتوجب مناقشته وتحليله على نحو أعمق وأدق. الوعي المعرفي يجب ان لا يتمحور حول الكتابة الحديثة من قصيدة نثر وقصة قصيرة وغيرهما، بل ان هذه الكتابة وكل كتابة معرفية يتوجب ان تعكس وعيا اجتماعيا وتاريخيا.
القضية المعرفية يجب ان تتجاوز استجلاب المعرفة المضادة للسائد التقليدي، بأشكاله الكتابية والفكرية، ذلك الاستجلاب الذي نحى منحى شخصي (تألمي) إقصائي لم يعزز الا غياب المثقف (وهنا أعني المثقف - الواعي)، الى معرفة تؤكد حضور هذا المثقف في التاريخ والمجتمع، حضورا يجعله واعيا ومسؤولا عن هذا الوعي في آن واحد. قد يقول البعض ان الواقع من الصعوبة الى انه لا يدعو الا الى الانكفاء. هنا أقول ان قراءة الواقع ليست دائما، ولا ينبغي لها ان تكون، قراءة متجانسة، وخصوصا إذا ارتبط الأمر بإصدار أحكام على ظواهر على مستوى المجتمع بأكمله. ولكني أتجاوز هذا هنا لأقول ان الانكفاء يكاد ان يكون تآمريا حين يتماشى مع مناحي حياتية اخرى يصرح الجميع بسلبيتها وخطورتها وضررها. ان ينكفيء مبدع ويعاني ويتألم فهذه ظاهرة اجتماعية صحية، لكن ان ينكفيء الجميع، وان يتحدث الجميع عن معاناة وعن حضور الغياب وعن الالم والهم، فهذه ظاهرة اجتماعية خطيرة.
ما أسميه هنا بالوعي المعرفي التفاعلي إذا هو احد الحلول التي أراها. حل أعتقد انه ضروري وملح في هذه المرحلة.
ما هي مظاهر الوعي المعرفي التفاعلي؟ أول مظاهره هو تجاوز الثقافة بالمفهوم الموجود، وإفساح المجال للمعرفة الأشمل، حيث اننا في أشد الحاجة الى دراسات في مجالات حياتية كاللغة والانثروبولوجيا والآثار والتعليم والتنمية وغيرها. اننا بحاجة الى القصة القصيرة وقصيدة النثر لكننا ايضا، بل أدعي اننا أحوج، الى الدراسات البحثية التي تتناول شتى مظاهر التفاعل البشري في عمان.
إذا كان هذا على مستوى أشكال المعرفة، فإن الوعي المعرفي التفاعلي يتميز أيضا بتركيزه على التفاعل. ما هو التفاعل الذي أعنيه هنا؟ التفاعل يفترض وجود واقع اجتماعي يشمل أكثر من ظاهرة اجتماعية، حيث تمارس كل ظاهرة من هذه الظواهر وظيفتها بإرتباطها بالظواهر الاخرى. حين اقول مثلا ان خطاب الهم الثقافي خطاب غير تفاعلي فإني أعني انه خطاب معطل اجتماعيا فهو لا يؤدي أي دور اجتماعي ذي شأن، ولا يرتبط وجوده وظيفيا بأي ظاهرة أخرى من ظواهر الحياة البشرية في المجتمع العماني.
الوعي المعرفي التفاعلي الذي أدعو اليه هنا يعتمد في وجوده أساسا على تفاعله. انه يمارس دوره بإرتباطه بالظواهر الاجتماعية الاخرى كالمتحقق من المعرفة العمانية، وبأنماط الحياة والتفكير في عمان، وبحياة الانسان عموما. ان المعرفة هنا تقيم ضربا من التناغم المسؤول في المجتمع. هذا التفاعل يرتبط أيضا برؤية المثقف - الواعي بإبعاده الاجتماعية والتاريخية، وبشعوره بالمسؤولية تجاه تلك الأبعاد. رؤية العالم والمجتمع تتجاوز التبسيطات التقييمية حول الحسن والسيء، فهذا سبيل للتعامل مع المعلبات والحياة ليست كذلك. ان الحياة ليست فقط مجموعة ساكنة من الظواهر يتمحور دور المثقف في إبداء رأيه فيها، بل انها حركة تفاعل مستمر يكمن دور المثقف - الواعي فيها في رؤية هذا التفاعل وتحديد موقعه منه وفيه.
قلت في حديثي عن السمة الاقصائية لخطاب الهم الثقافي ان لها أبعادا مستقبلية تتمثل في ان السائد الثقافي حين يستبعد ظواهرا وقضايا معرفية معينة من مجاله وفلكه فإن هذا الامر يؤدي الى خلق تفاعل وتطور معرفيين يتأسسان على هذا السائد، بمعنى ان السائد يلد نفسه ويعيد خلقها. فماذا يؤسس بالوعي المعرفي التفاعلي؟ انه كما أراه يؤسس أيضا لظواهر أخرى، لكنه يختلف عن السائد الثقافي، الهمي، الحالي بأنه لن يعيد خلق نفسه لكنه سيكون متفاعلا مع حركة المجتمع والتاريخ. خطاب الهم الثقافي السائد حاليا هو خطاب ساكن (رغم أنينه)، لكن وعيا مثل الوعي المعرفي التفاعلي لن يكون ساكنا. سيكون حركيا لا ثبات فيه. الخطاب التألمي خطاب غير واع بذاته، لكن الخطاب التفاعلي ستكون ذاته هي عين التفاعل المعرفي الذي يكونه، ذلك التفاعل الذي هو مظهر من مظاهر التفاعل الاجتماعي والتاريخي الأشمل.
من آثار الوعي المعرفي التفاعلي بإنفتاح مجالاته تعزيز آثار اجتماعية غاية في الاهمية. انه سيؤدي، فيما أرى، الى تعزيز التفاعل في الوعي الاجتماعي. ان الوعي المعرفي الحقيقي في مجتمع ما لا بد ان ينعكس على حياة كل من يعيش في هذا المجتمع، بمن فيه الانسان الذي قد لا يكون مرتبطا ارتباطا مباشرا بهذا الوعي. ان الوعي المعرفي الذي أرى السعي اليه وتعزيزه ستنعكس آثاره على حياة المجتمع عموما. هذا الوعي قد يؤدي ايضا الى تغيير ما في طبيعة النسق المجتمعي مما قد ينعكس الى التأثير في التاريخ بوجه من الوجوه. لكن هذه الانعكاسات كلها تظل بالطبع في دائرة الامكانية فقط. فهذا الوعي قد يجلب ردود فعل اجتماعية تعكس مسيرته المتوخاة وتكبح او تحد من او تؤثر في آثاره المبتغاة، لكن ما يظل صحيحا هو ان هذا الضرب من الوعي المعرفي الذي أرى وجوب السعي اليه وتعزيزه يحمل إمكانية خلق هذه الانعكاسات.
الوعي المعرفي التفاعلي لا يشترط ان يكون استمرارا لموضوعات وأشكال المعرفة العمانية الموجودة، بمعنى اني لا أطلب من المثقفين ان يؤلفوا في الفقه والعقائد (ولم لا في الواقع؟!!)، ولكني أرى ان انتشار هذا الوعي سيبرر ضربا من الاستمرارية التي قد تتخذ أشكالا معرفية قد لا نراها حاليا، سواء على المستوى الابداعي الادبي او البحثي او حتى بجلب بعض انعكاسات هذه المعرفة الى السياق المعيشي للإنسان العماني.
ألخص ما أريد قوله ثانية. انني أرى ان المؤسسة الثقافية الموجودة في الوقت الحالي في عمان والمتمثلة في أشخاص مهمومين يشعرون بالألم والمعاناة ويكتبون قصيدة نثر وقصة قصيرة وما شاكلها هي ظاهرة لم تنتج حتى الابداع الذي تعلن السعي اليه. ولفشلها هذا ولإنقطاعها عن المتحقق من المعرفة العمانية تاريخيا، ولإقصائها لمجالات معرفية في غاية الاهمية فإنه يتوجب السعي وراء اعادة هيكلة مؤسسة الثقافة التي تعزز خطاب الالم والوجع والمعاناة، على نحو يجعلها اكثر ارتباطا بالواقع العماني وبالمسؤولية تجاهه، وبالتواصل التاريخي مع المعرفة العمانية، وبالعالم بتفاعلاته المتعددة وطرح خطابات أخرى كالوعي المعرفي التفاعلي، لا تستند في وجودها وطرحها على تضادها مع المعرفة التقليدية السائدة، بل على محاولة طرح اسئلة جديدة وسبر أغوار مناطق معرفية لم، ولن، يصل اليها خطاب "الهم الثقافي" و"المعاناة والألم والوحدة".