الأحد، 25 أكتوبر 2009

عن تزوير الشهادات العلمية





عن تزوير الشهادات العلمية

عبدالله الحراصي



حين نسعى للبحث عن إجابة للسؤال «لماذا يزوّر إنسان شهادة علمية؟» علينا أن نبحث في البدء عن إجابة عمومية وننطلق من هذه الإجابة العامة نحو التخصيص في أمر تزوير الشهادات العلمية. حسناً، يفعل الإنسان ما يفعل من أجل أن يتعايش مع الوضع الذي يعيش فيه، فيحاول بفطرته أن يفعل ذلك من خلال الطرق الشرعية الطبيعية، وإن لم تنجح هذه الطرق الطبيعية فسيحاول بالطرق الأخرى غير الطبيعية، أي الطرق غير الشرعية والتي لا يقرّها المجتمع. من هنا فإن يسعى شخص ما للحصول على شهادة مزوّرة يعني بأن هذا الشخص «يحاول جاهداً» أن يتأقلم مع متطلبات اجتماعية لا يستطيع تحقيقها بجهده الطبيعي، مثل رغبته في الوصول الى الوضع الاجتماعي والمالي الذي يتوازى مع تلك الشهادة العلمية، ولأنه لا يستطيع بجهده تحقيق ذلك، فما المانع أن يعمد إلى طرق تحدث عملياتها تحت السطح ستضمن له شهادة يستطيع بها أن يفاخر ويكسب في المجتمع الذي يعيش فوق السطح؟



التزوير له طرفان إذاً: البائع والمشتري، البائع همه المال (وربما التخريب المتعمد) والمشتري همه الشهادة الوهمية. ولا ريب أن الجهة المزوّرة قد باعت تراثاً من القيم والتقاليد العلمية بثمن بخس، ولكن من لا يملك تقدير القيم والأخلاق العلمية والمجتمعية فلن يضيره أن يخدع مجتمعات بأكملها بأن يرسل إليها من يعد نفسه صاحب شهادة تمكنه من أن يصبح مؤثراً في مجتمعه، وحيث إن ما بني على باطل فهو باطل فالتأثير الذي يأتي من أصحاب الشهادات المزورة هو استمرار قيم التزوير، والذي يبتدئ بتزوير الشهادة سينتهي به الحال بتزوير الجهد وتزوير المعرفة وتزوير قلب منظومة القيم التي يراها المجتمع لوازم أخلاقية تحكم سلوك أفراده وتحكم تفاعلات هؤلاء الأفراد في حياتهم.



ولكني أرغب في أن أنبّه هنا إلى موضوع أراه في غاية الأهمية في الحديث عن الشهادات المزوّرة، وهو ما يمكن أن يسمى «التزوير الشرعي»، وهو أن تعمد جهة شرعية (مثل الجامعات) إلى منح شهادة تعليمٍ عالٍ تصل حتى إلى شهادة الدكتوراة لمن هم ليسوا أهلاً لحملها، وذلك بغض النظر عن متطلبات تلك الشهادة، مثل أن يعرف المشرف بأن الطالب لم يبذل جهداً حقيقياً لإعداد بحثه بل أن البحث قد كتبه شخص تم «استئجاره» ليقوم بهذه «الفعلة»، أو أن يتم إعطاء «الباحث» شهادة دكتوراة مع أنها غير مستوفية لشروط تقديمها، وهنا فإن الجميع مزوّرون شرعيون، لأن العملية بأكملها شرعية، ولكنك حين تنظر إلى البحوث المكتوبة لا تجد فيها الحد الأدنى من شروط العمل البحثي، كأن تجدها محض تجميع لأدبيات من هنا وهناك دون تحليل حقيقي قام به الباحث، ومع ذلك فسيحصل هذا الباحث على شهادة جامعية (ومنها شهادات الدكتوراة) ليعود إلى بلاده ويمارس أدواراً تزييفية ضخمة للقيم والأخلاق الاجتماعية والعلمية.



ومن أمثلة ما أسميه «التزوير الشرعي» أن توجد مؤسسات علمية – خاصة في الأغلب - تقدم برامج أكاديمية يبدو على ظاهرها المهنية وشروط النجاح، ولكن الإنسان لو تعمق فيها لوجد التزوير الكبير، فهذه المؤسسات تقدم هذه البرامج دون توفير شروط نجاحها، ككفاءة المدرسين، وتوفير البنية الأساسية لهذه البرامج مثل المختبرات والمعامل وبرامج الحاسوب المناسبة وبقية متطلبات البنية الأساسية. كما أن جانباً آخر من التزييف يكمن في أن هذه المؤسسات تقبل طلبة لا ينبغي قبولهم، ولكنها تقبلهم لأنهم قادرون على دفع مصاريف الدراسة، وهنا فإن هذه المؤسسات تعمد إلى «إعطائهم» الشهادات العلمية من خلال «التزوير الشرعي» حتى يتخرجون ويأتي غيرهم، كما أنها تمنحهم الشهادات وبدرجات مرتفعة حتى يتم توظيفهم في أماكن «محترمة» بالنظر إلى درجاتهم، وحتى لا تنتشر سمعة سيئة بأن الطلبة في هذه المؤسسة العلمية يرسبون ويفشلون في دراستهم. والنتيجة شخص يحمل شهادة مزوّرة تزويراً شرعياً يسهم في تزوير آخر على مستوى المجتمع.

أما الحل فيما أرى فهو أن تعمد مؤسسات الإشراف على التعليم العالي بمختلف تدرجاتها وأشكالها المؤسسية إلى القيام بما يلزم من إجراءات للتثبت من الشهادة ومن المؤسسة التي قدمت تلك الشهادة، كما أن عليها في حالة «التزوير الشرعي» أن تبعد «المشبوهين» بحمل مثل هذه الشهادات «المضروبة» عن مواضع التأثير الإجتماعي، مثل التدريس في الجامعات على سبيل المثال، وأن تفرض من الأنشطة المهنية ما يكشف ما يحملونه من غش وتزييف.



أخيراً فإن المتعلم الحقيقي «ما تتخطّاه العين» كما يقول التعبير العماني، حيث تعرفه من شخصه ومن إنتاجه وممارسته لمهنته ومن طريقة عيشه وتفاعله مع الآخرين، أما المزوّرون فتعرفهم من سيماهم حيث تجدهم لا يعيشون إلا في الظلام، ويختفون ما أمكن حين يشعرون بأن أمرا ما يحملونه من شهادات علمية مزورة (بطريقة شرعية أو غير شرعية) سوف ينكشف أمام الملأ، وعندها ينكشف عنهم غطاء الظلام الذي به يتدثرون.

هناك 12 تعليقًا:

  1. أخ عبدالله
    أشكرك على هذا الموضوع..
    هناك على أرض الواقع نتائج كارثية لما قلت!
    فالزائف لا ينتج إلا زائفاً
    الخطر كل الخطر من أُلائك الذين ذهبوا للدراسة واستطاعوا بطريقة قانونية الحصول على شهادات مكنتهم من الوصول إلى أماكن حساسة وذات تأثير كالجامعات ومؤسسات التعليم العالي بشتى أنواعها..
    والأخطر أُلائك الذين يضعون خطط ودراسات للتربية والتعليم في هذا البلد المنكوب تعليمياً..
    أعرف الكثير الكثير ممن يملكون شهادات تعليمية عالية قانونية ولكنهم لا يعلمون شيئاً ولا يفقهون ما هم فيه وما درسوه ولكنهم الآن في أماكن ذات تأثير!!
    المشكلة ليست فيهم بل في النظام الذي دفعهم لهذا السلوك والذي سمح لهم أن يستفيدوا مما فعلوه!

    ردحذف
  2. صباحكم رضى يا رب.

    قد تجدون خريجوا "إعلام" لا يجيدون الكتابة الإملائية لأبسط الكلمات!
    وغيره كثير .

    برأيي أن التزوير الشرعي تاثيره السلبي اقوى بكثير من المزور الحقيقي.
    لأن الأخير قد يُكتشف أمره .
    اما الشرعي ، فيمارس شرعيته بكل يسر .

    تحياتي

    ردحذف
  3. شكرا دكتور

    لقد كتبت عن هذا الموضوع في مدونتي أيضا قبل فترة
    http://migrantbirdblog.blogspot.com/2009/09/blog-post_09.html

    في برنامج الماجستير كان لدي زملاء عمانيين يدرسون على نفقة أماكن عملهم. منهم من كان ينتمي للقطا الخاص وكانوانوعا ما مثابرين. ومنهم من كان ينتمي إلى القطاع العام ولكنهم كانوا لا يألوا جهدا في توزيع كتابة الـ assignments على من يجيدونها من أصدقائهم أو أقربائهم.

    ذات مرة، سألني أحدهم إنكنت قد انتهيت من أحد البحوث المصغرة لأحدى المواد فأجبت. وعندما سألته عن بحثه قال لم يكن لدي الوقت فأعطى أحد أقربائه 100 ريال بيكتب له بحث الـ 2500 كلمة

    نجح صاحبنا وغيره ولم أره بعدها.. وأخشى أن أراه يوما يكبر فارغا ويمسك منصبا أعلى بعقل فارغ.. ومثله كثييييييييير..

    دكتور.. ألا يصح في هذا المقام المثل العربي القائل
    من له حيلة فليحتال؟؟


    تحياتي

    the-migrant-bird.net

    ردحذف
  4. مساؤكم صفاء

    سادتي هنا كلنا مزيفون ان اخذنا التزيف بمعناه العميق .
    اخبروني ما الفرق بين من جاءوا بشهادات مزيفه و من حصل عليها بعرق جبينه (مع ان التعبير الاخير لا يروق لي) اذا كان نتاج الاثنين هو ذاته؟؟؟؟

    ما اود الاشاره اليه هنا اننا نعيش ازمه حقيقيه واضحه جدا مع مناهجنا و اساليب التدريس الباليه و كل ما نحصل عليه من شهادات من جراء ذلك لا يعد شرعياّ!!!! اذا فنحن نندرج تحت الاشرعيه هذة

    د متم بصفاء

    رحمة ال خليفين
    http://ralkhulifeen.blogspot.com/

    ردحذف
  5. أراني أحدهم شهادة الدكتوراة التي حصل عليها من جامعة أمريكية مرموقة وعليها توقيع وزيرة الخارجية السابقة كوندليزا رايس...

    كيف حصل عليها:
    ارسل للجامعة شهادات الخبرة التي حصل عليها في مجال عمله (هندسة ميكانيكية - سفن) لمدة 20 تقريبا...

    وكانت جهة عمله ترسله إلى دورات في أوروبا ويعود بعلامات (A) بكل جدارة.


    هل هذه شهادة شرعية أم تزوير شرعي؟

    ردحذف
  6. السلام عليكم و رحمة الله..
    أحيك دكتور على هذا المقال، للأسف "التزوير الشرعي"- كما أسلفت- و الغير شرعي أصبح واقع
    لعل من أسبابه ما ذكرت من الرغبة في الوصول لوضع اجتماعي و مالي معين، و لكن –و هنا أسأل استنكارا لا إستفسارا- ماذا نقول عن من لديه هذه المقومات- أو ما يوازيها- و مع ذلك لا يألو جهدا للحصول على الشهادة المزورة؟! ما الهدف من ذلك؟ أتراه يزيد البحر قطرة؟ فكل بكل تأكيد هو لا يهدف إلى توسيع المعرفة و الإضافة إلى بحارها لأنه و بكل بساطة غير قادر على ذلك و لن يسعفه التزوير حينها...
    يترائى لي يا دكتور أنه ليس وحدهم المزورون من يعيش في الظلام، فهناك "متعلمون حقيقيون" أصيبوا بهذه الحمى حين لم نعد نرى منهم أي انتاج علمي وكأن العلم يتوقف عند الحصول على الشهادة فأصبحوا هم كذلك يتوارون في الظلام.. فهؤلاء هم أيضا مزورون ، إلا أن الفرق بينهم و بين من تعود إليهم في مقالك أنهم إتخذوا القرار بالتزوير بعد حصولهم على الشهادة، في هذه الحالات يتساوى حملة الشهادات المزورة و الشهادات الحقيقية فهم جميعا مزورون

    ردحذف
  7. سعيد الريامي26 أكتوبر 2009 في 1:35 م

    تزوير الشهادات الجامعية أو عدم أهلية الحاصلين عليها أمر خطير بلا شك . لكن الأخطر أن تصبح الدكتوراه مقياس التميز والنبوغ لدى مؤسساتنا الحكومية بل والمجتمع بأكمله، بحيث تتغير تلقائيا نظرة المؤسسة والمجتمع لحامل هذه الشهادة ويدفع به دفعا نحو المراكز والوظائف الحساسة دون أدنى تقييم . الخطأ إذا
    يكمن في فهمنا (مؤسسات وأفراداً) لقيمة الشهادة .فمن يسعى لنيل الشهادة بطريقة غير شرعية إنما يتجاوب تلقائيا مع متطلبات السوق الذي خلقناه نحن . يكفي أن نعرف أن كثيرا من مشاهير الغرب ممن تتردد أسماؤهم في وسائل الإعلام بحكم طبيعة العمل العام الذي يقومون به - كالسياسة والدبلوماسية مثلا - هم من حملة الدكتوراه بل إنهم أساتذة في الجامعات مثل كونداليسا رايس التي أتى أحد المشاركين على ذكرها . ومع ذلك فلا يسبق أسم أي من هؤلاء لقب دكتور . أما في بلادنا فخطا لا يغتفر أن تنطق الإسم وتغفل اللقب .
    الدكتوراه عندنا هي قمة العلم وقمة الفكر وقمة الإحاطة بالأمور الإدارية والتشريعية والتكتيكية و..و.. الخ الخ. بينما هي في الحقيقة شهادة بحثية متعمقة في زاوية ضيقة جدا جدا من زوايا المعرفة . وأختم بعبارة عادل إمام الشهيرة في إحدى مسرحياته القديمة جدا جدا .."بلد بتاع شهادات صحيح" .

    ردحذف
  8. في عملي انقسم الموظفون الى مجموعة مؤيدة والثانية معارضة وحد لا له ولا عليه وحد ع راسه بطحة ويتحسس عليها وواحد يسأل كيف سمحوا بنشر هذا المقال؟ قلت له يا أبو فلان ليش انت الوحيد الزعلان؟ قال ما شي بس كل واحد شهادته تعب فيها ليش الشك. تعرف انك خلقت جو للحوار

    ردحذف
  9. نعم .. أتفق معكما أخي سعيد الريامي..وأخت سعاد

    نعم سياسات مؤسسات الدولة هي المساهم الأول في هذا الترتيب العلمي أو التفضيل المالي أو الوظيفي. وقد تبعها المجتمع في هذه التصنيف. فهرول البعض للحصول على مآربه عن طريق الحصول على شهادات علمية. ولكن من الأجحاف أن نضع كل حصل على الشهادة بشرعية ومن حصل عليها بغير شرعية في بويقة واحدة وإن اتفق الهدف.

    وختاما أقول.. أنا عندي 1 ماجستير واثنين شاوارما وزيدهم بيبسي

    ...

    http://migrantbirdblog.blogspot.com/2009/09/blog-post_09.html

    ردحذف
  10. في الحقيقة هذه القضية تمس الأخلاق والقيم أولاً وأخيراً ، وعندما تضيع الأمانة العلمية فعلى الدنيا السلام.

    ردحذف
  11. مساء الخير
    عذرا قد أخرج عن الموضوع قليلا، ما اود اثيره هنا اسلوب الشركات في الاعتماد على المعدل التراكمي Grade في المفاضلة بين الطلاب، دون اعتبار لجودة الجامعة، فلو تخرج (س) من جامعة (أي كلام) بمعدل 3 ربما يتم مفاضلته على خريج جامعة Yale مثلا بمعدل2.5 (ارقام تقريبية)
    تحياتي

    ردحذف
  12. هذه الفئة تسئ إلى من سهر وتعب و(انذبح) وهو يجاهد لنيل الشهادات العلمية.....!!
    وبالرغم من هذا وما يجعلني أضع في بطني (بطيخة صيفي)، هو أن هذا المخادع لن يكون على مستوى يؤهله المنافسة

    ردحذف